د. عمر بولاط - ترجمة وتحرير ترك برس

يتمنى الجميع مع بداية كل عام جديد، أمنيات جديدة، وتتجدد الآمال، وينظرون بإيجابية ليكون العام الجديد أفضل من العام المنصرم. وقد أنهينا العام 2015 وسط أجواء من التفاؤل والأمل بعد إجراء الانتخابات العامة لمرتين، وعودة حكومة الحزب الواحد، وما تبعها من استقرار داخل تركيا، لكن ذلك العام لم ينته قبل أن تقوم المنظمات الإرهابية الانفصالية، ومنظمة داعش الإرهابية بشن هجمات إرهابية من خلال انتحاريين، ولم ينته العام قبل نشوب أزمة في العلاقات الروسية التركية بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية. ودخلنا العام الجديد بآمال جديدة، بعدما انتهى العام 2015 بنمو اقتصادي بلغت نسبته 6.1%، خصوصا وأن الربع الأخير من ذلك العام بلغت نسبة نمو الاقتصاد به 7.4%، وهذا ما أعطانا المزيد من الأمل والتفاؤل. وانتهى العام وسعر صرف الدولار مقابل الليرة يترواح بين 2.80 الى 2.95.

تدهورت أسعار النفط في أول شهرين من عام 2016، لتصل إلى مستويات قياسية بلغت 28 دولارا للبرميل، وتراوح سعرها حتى 40 دولارا خلال النصف الأول من عام 2016، وهذا كان إيجابيا، حيث انتهى الربع الأول والثاني من العام 2016 بنسبة نمو اقتصادي بلغت 4.5%، وهي أمور جيدة ومؤشرات منحتنا الأمل، حيث نجحت الدولة التركية في تحقيق نجاحات عدة متعلقة بمكافحة المنظمات الانفصالية الإرهابية وتنظيم داعش، وتسبب ذلك في الآن وقته بتضحيات جسام قدمها أبطال القوات الأمنية التركية، الذين استطاعوا من خلال هذه التضحيات بتطهير الخنادق من الإرهابيين.

وفي تاريخ 23 حزيران/ يونيو، قررت بريطانيا من خلال استفتاء عام، الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهذا كان مؤشرا على ارتفاع أسهم اليمين بصورة حادة في القارة الأوروبية، وازدياد القومية والعرقية ورهبة الأجنبي والعداوة ضد الإسلام، وتسبب كل ذلك بحالة من عدم الاستقرار الاقتصادي. وفي نهاية الشهر ذاته حدث تفجير إرهابي هزّ مطار أتاتورك الدولي، وتسبب في هزات انعكست على المستوين الاقتصادي والمجتمعي. وبعد ذلك قامت جماعة فتح الله غولن، بعد 4 أيام من عودة الناس إلى أعمالهم من عطلة عيد الفطر المبارك، قامت باستغلال نفوذها داخل الجيش، ونفذت محاولة انقلاب عسكرية ليلة 15 تموز/ يوليو، لكن فدائية الشعب التركي، وثبات حكومته ورئيس الجمهورية، أفشلا تلك المحاولة. ولا شك بأنّ هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة أضرت بالاقتصاد التركي بصورة عميقة، وأصبحنا نستطيع القول بأنّ عام 2016 يُقسم إلى قسمين، ما قبل 15 تموز وما بعد 15 تموز، حيث كانت المبيعات والصادرات قد وصلت القمة قبل 15 تموز، لكن بعد تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، تراجعت المبيعات وحصل ما يشبه التراجع الحاد في مؤشرات الاقتصاد التركي، وذلك خلال أسبوعين بعد 15 تموز. ولم تكتف المؤسسات المالية مكتوفة أيدي، بعد فشل جماعة غولن بتحقيق ضربة اقتصادية مميتة، ولذلك هرعت مؤسسات التقييم الائتماني إلى خفض درجة تركيا.

لكن تركيا، بشعبها وحكومتها، قدمت مشهدا رائعا في الوحدة والتماسك من أجل المحافظة على الاستقرار، وحماية الدولة من خطر التقسيم، وهرع المواطنون من أجل تحويل الدولار لليرة التركية، وقاموا بتحويل 12 مليار دولار إلى الليرة التركية، ولم يسمحوا ابدا بخلق حالة من الهلع والقلق. فيما أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ، واتخذت إجراءات سريعة وحاسمة ضد الانقلابيين، وطهرت أجهزة الدولة منهم بصورة كبيرة، واتخذت تدابير اقتصادية من خلال الصلاحيات التي يُسمح لها القيام بها في حالات الطوارئ، وهذا الأمر ساهم في بقاء الاقتصاد التركي واقفا على قدميه، ومن هذه التدابير قيامها بتخفيف العقوبات المالية المترتبة على ديون التأمينات والضرائب، وقامت بتحفيز الإنتاج، من خلال تقديم تحفيزات كبيرة لكل المشاريع الواعدة، واستثمرت ما قيمته 140 مليار ليرة تركية في 22 محافظة في جنوب شرق وشرق الأناضول خلال 5 سنوات قادمة، وساهمت كل هذه التدابير بإعادة إحياء الاقتصاد التركي من جديد. وقد كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة خلال شهر أغسطس/آب يُقارب 2.90-3.00 ليرة. وبعد ذلك دخلت تركيا في عملية عسكرية بتاريخ 24 آب/أغسطس لمواجهة الإرهاب في شمال سوريا، أطلقت عليها اسم عملية درع الفرات، والتي حققت ولا تزال العديد من النجاحات.

وفي شهر أيلول/ سبتمبر، ومجددا بعد انقضاء عطلة عيد الأضحى المبارك، وتحديدا بتاريخ 24 أيلول، قامت مؤسسات التقييم الائتماني بخفض درجة تركيا الائتمانية درجة إضافية، والهدف من ذلك عمل اهتزازات اقتصادية جديدة، بصورة تشبه قيامهم بانقلاب اقتصادي، لكن هذه المحاولة أيضا لم تترك آثارا دائمة. وبعد ذلك كان الفوز المفاجئ لدونالد ترامب، في انتخابات الرئاسة الأمريكية يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر، وأدى ذلك إلى موجة عارمة في أسواق اليورو في الدول النامية وعلى رأسها تركيا، وهوت الليرة التركية وفقدت من قيمتها بنسبة وصلت الى 20%، حيث تعرضت الأسواق في العالم لهزات كبيرة على مدار 6 أسابيع منذ انتخاب ترامب، وذلك بسبب حديثه ووعوده الانتخابية المتمثلة بالاهتمام بالاقتصاد الأمريكي، ورفع نسبة الفائدة، والانسحاب من محادثات التجارة الحرة وغيرها.

كما أنّ ارتفاع نسبة الفائدة،  في البنك المركزي الأمريكي، خلال شهر ديسمبر/كانون أول بثاني أعلى نسبة منذ عشر سنوات (ارتفاع بنسبة 0.25%)، واحتمالات زيادة مقدار التضخم، وزيادة متوقعة بمقدار ثلاثة أضعاف في نسبة الفائدة، كل ذلك من مؤشرات أنْ يبقى الدولار قويا خلال عام 2017.

قام البنك المركزي التركي، بخفض نسبة الفائدة بمقدار 2.75 نقطة، خلال 7 مرات منفصلة منذ شهر آذار/ مارس 2016، وأبقى نسبة الفائدة ثابتة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، لكنه اضطر في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، زيادة نسبة الفائدة بمقدار 0.25 نقطة.

وقد وجه رئيس الجمهورية رجب طيب ادروغان، نداء للشعب التركي من أجل المساهمة في تثبيت وضع سعر صرف العملات، وذلك خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو ما لاقى استجابة واسعة من الشعب التركي، ومن المؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة، وحولت العديد من المؤسسات تعاملاتها الى الليرة التركية بدلا من الدولار، ونجحت هذه الإجراءات بتثبيت سعر صرف الدولار مقابل الليرة التركية حول 3.5 ليرة.

ومن جهة أخرى، قامت الحكومة خلال بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، من خلال مجلس التنسيق الاقتصادي، بإجراءات لإحياء الاقتصاد من جديد، مثل تسهيل أمور الديون على المصانع والشركات، وكذلك تقديم ما مقداره 250 مليار ليرة تركية لتقدم الى الشركات والمصانع التركية كقرض خلال عام 2017، وحضرت أيضا حزمة لتوظيف 600 ألف شخص.

ومختصر عام 2016، يتمثل بأنّ تركيا عاشت حالة من الاستقرار والنمو الاقتصادي في النصف الأول من العام، غير أنّ مؤسسات التقييم الائتماني الدولية وما قامت به في شهر حزيران، وكذلك قيام جماعة غولن بمحاولة انقلاب دموية، وما تبعها من محاولات القيام بانقلاب اقتصادي، أثر بصورة كبيرة على الأوضاع الاقتصادية في تركيا خلال النصف الثاني من عام 2016، وهكذا انقضى عام 2016، والذي يُمكن وصفه "عام العواصف الداخلية والخارجية. وتركيا انهت هذا العام "العاصف" بالمحافظة على وحدتها، والاستمرار في تعزيز أمنها واستقرارها، وهي ستعمل المزيد في هذا الجانب خلال عام 2017، وستتخذ الحكومة إجراءات جديدة من أجل تحقيق الأمن والاستقرار الذي يُمهد لزيادة النهضة والتنمية، وتتمثل أولى تلك التدابير بمكافحة المنظمات الإرهابية الانفصالية، والاستمرار بعملية درع الفرات في سوريا، واتخاذ كافة الإجراءات بحق كل من يقدم أو يناصر جماعة غولن أو الجماعات الإرهابية الأخرى، وهذا ربما يكون سببا في زيادة برودة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. كما أنّ تمدد إيران والاستمرار في سياستها المذهبية والطائفية في العراق واليمن ولبنان، سيؤثر سلبيا على علاقتها مع تركيا. وقد كانت حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة تهدف إلى وضع العصي في دواليب العلاقات الروسية التركية، لكن الدولتين نجحتا في عدم السقوط في هذا الفخ. ولم تُسبب الهجمات الإرهابية التي حدثت في بشكتاش وقيصري سوى مزيد من التوحد الشعبي والمجتمعي في تركيا.

من المتوقع أن يشهد العام 2017 بقاء الدولار قويا، وزيادة في الاقتصاد الأمريكي، وزيادة في معدلات التضخم والفائدة، لكن في ذات الوقت، سيشهد الوضع السياسي في أمريكا حالة من الاستقطاب بين مؤيدي ترامب ومعارضيه، وفي حال ازدياد حدة اليمين في دول الاتحاد الأوروبي بعد اجراء انتخابات في فرنسا وهولندا وإيطاليا خلال عام 2017، فإنّ اليورو سيتراجع بسرعة، ولذلك فإنّ استمرار الصراع بين القارة الأوربية والنظام العالمي سيستمر خلال عام 2017، وهذا سينتج عنه في عموم الاتحاد الأوروبي بطء في النمو الاقتصادي وزيادة كبيرة في نسبة البطالة.

بينما ستدخل تركيا مجددا إلى حلقة النمو الاقتصادي بصورة أكبر خلال عام 2017، وذلك بعد تعافيها من صدمة النصف الثاني من عام 2016، وستزداد معدلات الطلب والاستهلاك، وستُسفر الإجراءات التحفيزية التي اتخذتها الحكومة التركية، وتحفيز الاستثمار، وتوفير القروض، سيُسفر كل ذلك على شكل زيادة في الاستثمارات ونمو في الاقتصاد، ومن المنتظر أن تكون الصادرات على الأقل بنفس ما كانت عليه خلال عامي 2015 و2016، وستزداد معدلات السياحة والدخل السياحي خلال عام 2017، وستكون نسبة التوظيف في 2017 أعلى مما كانت عليه في 2016.

نؤمن من أعماق قلوبنا بأنّ المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي كانت في الربع الأخير من عام 2016، ستستمر في عام 2017، من حيث زيادة الاستثمارات وزيادة الإنتاج وزيادة النمو في القطاع الخاص، وسيكون عام 2017 "عام التفاؤل والتمكين"، وشرط ذلك يتمثل في المحافظة على الاستقرار والأمن وديمومتهما.

عن الكاتب

د. عمر بولاط

الدكتور عمر بولاط / رئيس جمعية الموصياد لرجال الأعمال والصناعين السابق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس