جلال سلمي - خاص ترك برس
انطلقت في 23 كانون الثاني/ يناير 2016، مفاوضات أستانة التي تعول عليها العناصر المشاركة، في أن تفضي إلى نتائج إيجابية تساهم في تثبيت عملية وقف إطلاق النار، وتجعل من حل الأزمة السورية في صالح روسيا وتركيا وإيران، وإن كان هناك خلاف بينهم، بمعزل عن الولايات الأمريكية المتحدة التي تجدها العناصر المذكورة منافس أساسي لها في سوريا، ولعل مماطلة الولايات المتحدة، إبان إدارة أوباما، في إيجاد حل نهائي وشمولي للأزمة، ورغبتها في ربط الدول الفاعلة بهدنة تكفل لها توسيع نطاق نفوذها عبر قوات سوريا الديمقراطية التي ستستمر في عملياتها، بذريعة "محاربة داعش"، أرغمت الدول الثلاث، مع المعارضة، لإطلاق عملية مفاوضات يتمخض عنها مخرجات مناسبة لحل الأزمة، بعيدًا عن أي دور للوليات المتحدة التي قد تجد نفسها مضطرةً للموافقة على عدة شروط في مؤتمر جنيف المزمع عقده في بداية فبراير المقبل.
عديدة هي الأسباب التي دفعت روسيا وتركيا وإيران لعقد مؤتمر تحت قيادتهما، ولكن التساؤل الذي بات أكثر إلحاحًا حول عملية المفاوضات، هو لماذا أستانة بالتحديد؟
يمكن الإجابة على التساؤل المطروح في إطار شقين:
ـ الشق الأول؛ عوامل داخلية متعلقة بكزاخستان:
ـ تنمية محور القوة الناعمة: بالرغم من النظام السلطوي الذي تقبع تحته كازاخستان، إلا أن قيادتها السياسية ترى أن القوة الناعمة تلعب دورًا محوريًا في توسيع نطاق النفوذ السياسي والاقتصادي الذي يزيد من قوة هويتها القومية وحصانتها الوطنية، في سبيل صون كيانها السياسي مستقل متماسك أمام ربما المسعى الغربي للتغلغل داخل منطقة وسط آسيا، لكسر النفوذ الروسي الصيني، وتكون الحجة هي نشر الديمقراطية، كما العادة، أو أمام المطامع الروسية التي تغذيها غريزة التمدد داخل أراضي نفوذها التاريخي، دون الاعتبار لأي عامل سوى مدى قدرة الدولة الواقعة في إطار مطامعها على صد تحركها. ويعد لعب دور الوسيط بين الأطراف المتنازعة من أهم أساليب القوة الناعمة التي تكرس النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي للدولة المطبقة لها، وربما المتابعة الإعلامية الدولية المكثفة لمؤتمر أستانة والتعريف بها، تكفي بمفردها لإحراز كزاخستان ما ترنو إليه.
أيضاً، تُوجت مدينة أستانة بلقب "مدينة السلام" من قبل اليونسكو عام 2003، تكريمًا لها في احتضان العديد من الشرائح المجتمعية دون أي نزاع بائن، وعلى الأرجح يشكل اللقب مسندًا أساسيًا لكازاخستان لتكريس أساليب قوتها الناعمة حول العالم، من خلال محاولة نشر السلام.
ـ لهيب الثورات وما يخلقه من توجس: تحتضن كازاخستان عدد هائل من الأعراق والأطياف المختلفة، لذا تتجه جاهدةً نحو بذل جهود حثيثة لاحتواء الثورة السورية التي باتت تظهر، وبكل وضوح، على أنها "حرب مذهبية طائفية" بين الشيعة والسنة، واستمرار هذه الحرب يشكل خطرًا محدقًا لكازاخستان، لا سيما في ظل التطور التكنولوجي والمعلوماتي الذي يوفر للجميع فرصة متابعة الأوضاع السياسية في جميع أنحاء الأرض، فالعالم حقًا أصبح قريةً صغيرة، وبات الاعصار الذي يضرب شمال العالم يؤثر في جنوبه.
ـ الشخصية السياسية الحكيمة والمحنكة: يشهد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وبعض القادة الإيرانيين، لحكمة وحنكة الرئيس الكزاخستاني "نور سلطان نزاربييف"، حيث لعب دورًا أساسيًا في إقناع الطرفين التركي والروسي للتصالح، بعد تدهور علاقاتهما الثنائية نتيجة إسقاط تركيا لطائرة روسية حربية على حدودها مع سوريا في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2015، ويُشهد له في حنكته لتسخير أستانة كأحد أهم محطات التفاوض بين إيران والغرب حول الاتفاق النووي. وعلى ما يبدو يشكل هذا العامل نقطة جذابة للأطراف المشاركة في المؤتمر لاختيار أستانة محطة لعملية المفاوضات.
ـ مصالح اقتصادية: حاولت كازاخستان بناء استثمارات متنوعة في سوريا قبيل اندلاع الثورة، وعلى الأرجح، تحاول استرجاع فائدة هذه الاستثمارات من خلال إبراز دوراً أساسياً لها في عملية الحل، كما أنها تحاول ربط نفسها اقتصاديًا بشكل أكبر مع روسيا وتركيا وإيران.
ـ صد المؤامرات الخارجية: تعتبر كازاخستان الثورات "مؤامرات خارجية" يقوم بها الغرب للتغلغل في شؤون الدول الأخرى، بدعوى نشر الديمقراطية، ولطالما حذر نزاربييف من هذه الثورات التي وصفها "بالمدفوعة"، وهو ما شجع كزاخستان للسعي جاهدةً لدعوة الأطراف للتحاور، بغية القضاء على "المؤامرة الدولية"، حسب رؤيتها، المصيبة لسوريا.
ـ عوامل خارجية دولية:
لا بد من وجود عوامل دولية أدت لإيقاع اختيار الأطراف المشاركة على أستانة لا غيرها، ولعل أبرز هذه العوامل:
ـ اقتناع الأطراف بالمهارة الدبلوماسية الفائقة لكزاخستان دوناً عن غيرها من دول الإقليم:
ـ الشغور الإقليمي: ترغب الدول المشاركة في المؤتمر إرساء نقاط أساسية يستطيعون من خلالها الحصول على مكتسبات موسعة في مؤتمر جنيف الدولي المزمع عقده في بداية فبراير، وفي ظل حيادية كزاخستان تُجاه الأزمة السورية، حيث أنها لم تعلن دعمها للنظام السوري بالرغم من عدم اقتناعها بمصطلح الثورات الشعبية، وفي ضوء انعدام دولة أخرى تحل محلها كوسيط إقليمي قوي، وقع الخيار الإقليمي التوافقي عليها.
ـ الرغبة الروسية في ترسيخ محطات دبلوماسية بديلة للمحطات الغربية: جرت العادة أن تعقد مؤتمرات التفاوض في عواصم غربية، كجنيف ولوزان، إلا أن روسيا تسعى على ما يبدو إلى إرساء قاعدة وجود بديل "غير غربي" للمحطات الدبلوماسية الغربية، وذلك في إطار مسعاها الاستراتيجية لكسر الاحتكار الغربي في السيطرة على المجريات السياسية حول العالم، وصنع بديل موازي لها، لاقتناع روسيا بأن النظام العالمي لم يؤسس بشكل نهائي بعد، ولا بد من إجراء بعض التعديلات الترميمية عليه.
إذًا، وقوع الاختيار على أستانة لم يأتي بمحض الصدفة، بل لرغبة الدول الفاعلة بتحقيق حاجات في نفسها، وتحول رغبات هذه الدول إلى واقع مرتهنة بنوعية المخرجات التي ستصدر عن المؤتمر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس