جلال سلمي - خاص ترك برس
بالاطلاع على مسار الصحف التركية للأسبوع الماضي، يُلاحظ، وبشكل يسير، تضاؤل التعويل التركي على الإدارة الأمريكية الجديدة التي عُقدت عليها الآمال التركية، لجني فرصة إشراك القوات العربية والكردية المحالفة لها في عملية تحرير الرقة. تلك الفرصة التي وجدت تركيا فيها الإمكانية لكبح وحدات الحماية الكردية عن الهيمنة على المزيد من المساحات الجغرافية.
خمدت شعلة التعويل التركي عقب إعلان القيادة الميدانية للقوات الأمريكية الفاعلة في سوريا، عن علمها المسبق عن الاتفاقية التي تم إبرامها بين روسيا وقوات سوريا الديمقراطية المسيطرة على "منبج" المحاذية "للباب"، والتي تقضي بالسماح لقوات النظام بالسيطرة على مشارف مدينة "منبج"، لشق الطريق أمام القوات التركية وقوات الجيش الحر المحالفة لها.
التساؤل الذي يجول الآن في خاطر المتابع للشأن السوري، هو لماذا اصطدم تركيا بمعارضة أمريكية روسية فيما يتعلق بقضية تحركها نحو "منبج"، وما هي العوامل التي حالت دون مواصلة تركيا تحركها العسكري في إطار "درع الفرات" نحو "منبج"؟
عوامل عدة تُصوَّر على أنها الحائل للتحرك التركي الذي اتسم "بالاندفاع" الشديد صوب الإدارة الأمريكية، عشية إطلاق الأخيرة بعض الشعارات النارية المنددة بالتوغل الروسي والإيراني، وربما الشيء الإيجابي في هذا الاندفاع هو عدم مهاجمة روسيا، وتكرار التأكيد على ضرورة الإبقاء على التعاون الدبلوماسي والميداني، وإلا لسقطت تركيا في ذات العزلة التي كانت عليها خلال عام 2015، نتيجة مهاجمتها للتحرك الروسي في سوريا، ومراوغة الولايات المتحدة لها.
ـ عوامل خارجية تحول دون تحرك تركيا نحو منبج:
ـ خشية الولايات المتحدة من احتمالية الذهاب إلى تصعيد عسكري وسياسي معقد لا تحمد عقباه، في حال دخلت القوات التركية "منبج"، لا سيما في ظل اتضاح بعض معالم "تقاسم النفوذ" في سوريا، وتوجسها من تشكيل تركيا حصاراً على المناطق المسيطر عليها من قبل الوحدات الكردية، بشكل يحول دون تحركها في المستقبل، بالإضافة إلى فعالية وحدات الحماية الكردية التي باتت على وشك احكام حصارها على الرقة، في محاربة "داعش".
ـ رغبة روسيا في الإبقاء على مستوى نفوذها الميداني السابغ الذي غنمته في ضوء تدخلها العسكري المباشر في سوريا في سبتمبر/أيلول 2015، إذ تشكل السيطرة التركية على "منبج" وبعض مناطق الرقة، عائقاً استراتيجياً أمام الطموح الروسية الرامية إلى تحقيق مكاسب شبه مطلقة في سوريا.
ـ العائق القانوني الموضوع من قبل روسيا والولايات المتحدة وقوات النظام؛ ما زالت قوات النظام السورية تتمتع بحق السيادة على الأراضي السورية، وأي اشتباك تركي مع هذه القوات يتحول إلى عملية احتلال رسمية وفقاً لمعايير القانون الدولي، وهو ما تخافه تركيا، وتعلم القوات الأخرى التي وضعته أمامها عمداً، بغية التعبير عن رفضهما لتحركها.
ـ عوامل داخلية:
ـ الخشية التركية من خسارة المكتسبات:
تخشى تركيا اليوم من الوقوع في مضمار المنافسة الميدانية مع روسيا أو الولايات المتحدة أو حتى إيران، للإبقاء على مكتسباتها المتمثلة بدحرها "لداعش" وإفشال وحدات الحماية الكردية من تشكيل "حزامٍ كرديٍ" على طول حدودها، والتي حصلت عليهم من خلال السيطرة على بعض المناطق السورية المحاذية لحدودها. لم تظفر تركيا بهذه المكتسبات إلا بعد كسب مواقف الدعم الروسي والأمريكي، وفي حال سقطت في خلافٍ مع هاتين القوتين بالتحديد، فذلك يعني أن مكتسباتها مُعرضة للخطر، وهذا ما تحاول تركيا تجنبه، وهذا ما يجعلها منضبطة بتقديرات هاتين الدولتين اللاتين أظهرتا لها بلا مواربة أنهما تمانعان تحركها نحو "منبج".
ـ الإبقاء على روح عملية الحل السياسي الوسط قائمة:
لم تعد تُعلن حلب خط أحمر، لم تعد تتعاون مع جبهة النصرة، لم تعد تُطالب بإسقاط نظام الأسد، شواهد كثيرة توحي بإيمان تركيا بالتوافق السياسي مع روسيا لاستيعاب الأزمة السورية، وانهائها وفقاً لمبدأ الحل الوسط الذي يكفل تحقيق مصالح الدول الفاعلة بشكل نسبي وليس كلي. تخوف تركيا من سقوط عملية الحل المذكورة، وتحول مسار تلك العملية لمسارٍ ينفي وجوده يجعلها متخوفة من التحرك نحو "منبج" عبر التصعيد.
ـ عملية الاستفتاء والحساسية الإعلامية:
تمر تركيا اليوم بمعطف تاريخي يكمن في تحويل نظامها البرلماني إلى نظامٍ رئاسي. وحزب العدالة والتنمية ـ الحزب الحاكم في تركيا ـ هو الحزب الذي يرمي إلى تحقيق هذا المعطف، ولا شك في أن مواصلة القوات التركية تحركها صوب "منبج"، حيث الطريق الوعرة الطويلة والخسائر البشرية والعسكرية المتوقع أن تكون هائلة، ترغمه على التمهل وإعادة التفكير ملياّ في انتهاج مثل هذه الخطوة.
في العموم، الرفض الأمريكي والروسي للتحرك التركي ما بعد الباب كان متوقعاً منذ فترة طويلة من الزمن، وقد بزغت ركائز هذا التوقع منذ فترة طويلة، ففي 26 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أرسلت روسيا رسالتها التحذيرية لأنقرة التي تحركت قواتها نحو الريف الغربي لحلب، من خلال استهداف قوات النظام السوري لجنود أتراك، وعادت روسيا الكرة في 9 فبراير/شباط من خلال استهداف مجموعة من الجنود الأتراك، بعد تلويح تركيا بطموحها للتحرك نحو الرقة والباب، وأما الولايات المتحدة، كدولة وليست إدارة، فقد أظهرت رغبتها في عدم تحرك تركيا نحو "منبج"، من خلال تراجعها عن التصريح الإعلامي الذي دعت من خلاله تركيا للتحرك المشترك نحو الرقة ومن ثم الموصل، وعبر تخفيف دعمها الجوي للقوات التركية المحاربة في الباب، وفي النهاية من خلال التعاون الواضح مع القوات الروسية في تشكل عائق أمام القوات التركية والقوات المحالفة لها، والتي حاولت السيطرة على بعض قرى منبج المحاذية للباب
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس