ونيس بن نايا - خاص ترك برس
نحن نصطلح عادة في التعبير عن الجدل العقيم الذي يتناقش فيه طرفان دون أن يقتنع أحدهما بوجهة نظر الآخر، ودون أن يتنازل أحدهما أو كلاهما عن وجهة نظره بـ "الجدل البيزنطي". ويُنسب هذا النوع من الجدل لبيزنطة، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية التي عُرفت أيضا بالقسطنطينية. وقد ظهر هذا المصطلح في القرن السابع ميلادي مع انتشار الجدل العقيم في المجتمع البيزنطي حول جنس الملائكة وحجم إبليس؛ هل هو صغير إلى درجة أنه قادر على المرور من ثقب إبرة، أم كبير بحيث لا يسعه أيّ مكان. وشغل هذا النوع من الجدل السياسيين ورجال الدين والعامة على حدّ السواء حتى آخر لحظة من تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، عندما غزا السلطان العثماني، محمد الفاتح المدينة في سنة 1453، فتحول اسمها منذ الوقت إلى "إسلامبول"، ثم "إسطنبول".
لقد عرفت إسطنبول منذ ذلك الوقت مواضيع جدليّة عديدة في السياسة والدين وصلت إلى درجة الصدام العنيف أحيانا، لكنها كانت تنتهي دائما إما باقتناع أحد الطرفين بوجهة نظر الطرف الآخر، أو بتنازل أحدهما أو كليهما عن وجهة نظره. فهل نحن أمام شكل جديد من أشكال الجدل السياسي مركزه إسطنبول مرة أخرى؟ وهل هناك شيء واحد مؤكد في هذه المدينة؟
إن الإجابة عن السؤال الأول تقودنا مباشرة للبحث عن إجابة للسؤال الثاني، وإذا كان هناك أمر واحد مؤكد حول قواعد اللعبة السياسية في الأناضول، فهو أنّ "من يحكم إسطنبول، يحكم تركيا". وما عدا هذه القاعدة، فإن كل قاعدة أخرى يمكن تذويبها داخل الجدل التاريخي العقيم. حدث ذلك لأوّل مرة منذ أكثر من خمسة قرون من تاريخ المدينة، ولا زال يتكرر إلى الآن بأشكال مختلفة.
لقد أدرك نابليون بونابرت هذه القاعدة في القرن الثامن عشر عندما قال "لو كان العالم كله دولة واحدة، لكانت إسطنبول عاصمته". لقد قالها نابليون عندما كانت الإمبراطورية العثمانية تمتد من وسط آسيا إلى المغرب. وقد عبّر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من 14 قرن من الزمن في حديثه "لتفتحن القسطنطينية، فنعم الأمير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش"، إنما قال "القسطنطينية" ولم يقل "بلاد الروم"، في الإشارة إلى المدينة، لا الدولة. وإذا كانت هذه الشهادات التاريخية على اختلاف أبعادها الدينية والسياسية تكتسي دلالة معينة، فهي إنما تدل على الأهمية التاريخية التي كانت تحظى بها هذه المدينة على امتداد الحقب التاريخية المختلفة.
لا أدري متى بدأت هذه القاعدة في التبلور تحديدا أو متى تحولت من مجرد مصادفة عابرة إلى حتمية تاريخية، لكن كل ما يمكن الجزم به هو أنها ظهرت نتيجة لتراكمات تاريخية متتالية خلال قرون من الزمن. لقد استوعب العثمانيون هذه القاعدة جيّدا، واستوعبها أيضا البيزنطيون بعد فوات الأوان. لقد خسر البيزنطيون إمبراطورتيهم التي دامت لقرون من الزمن عندما خسروا القسطنطينية، وبنى محمد الثاني إمبراطورية دامت لقرون من الزمن عندما فتح القسطنطينية. ولم يكن الهدف من سيطرة الجيوش العثمانية على المدن المجاورة لها، مثل بورصة وغاليبولي، سوى تهيئة الظروف المناسبة لفتح القسطنطينية، فمدينة غاليبولي كانت تشرف على مضيق الدردنيل الذي يمثل الواجهة البحرية للمدينة، ومدينة بورصة مثّلت البوابة الشرقية البرية الوحيدة لها. لقد أدرك العثمانيون جيّدا أهمية القسطنطينية كما أدركوا أهمية الحفاظ عليها، ولذلك نقل محمد الفاتح عاصمة الخلافة العثمانية من مدينة إدرنة إلى مدينة "إسلامبول" مباشرة بعد فتحها، وقد مثّل هذا الحدث مرحلة تاريخية جديدة شكّلت مؤشرا على نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة.
في الحقيقة، إن الجزم بأن "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا"، يقتضي الإقرار بأن العكس أيضا صحيح، "فمن يخسر إسطنبول، يخسر أيضا تركيا". وإذا كان استيعاب العثمانيين للجزء الأول من القاعدة سابقا لفتح القسطنطينية، فإن استيعاب الجزء الثاني كان يقتضي بالضرورة تجاوز الجزء الأول من القاعدة، أي أن العثمانيين كانوا في حاجة لخسارة إسطنبول ولو لساعة واحدة حتى يدركوا بأن "من يخسر إسطنبول يخسر تركيا"، بناء على مبدأ أن فاقد الشيء لوحده يدرك معناه. وهو ما كاد يحدث خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في معركة جناق قلعة أو ما يُعرف بمعركة الدردنيل. في ذلك الوقت، حاولت القوات البريطانية والفرنسية المشتركة السيطرة على مدينة إسطنبول من أجل توفير الدعم لروسيا في مواجهة القوات الألمانية، لكنها فشلت في تحقيق هدفها بعد أن تصدت لها القوات العثمانية، ضمن ما أصبح يُعرف بعد ذلك الوقت بآخر الانتصارات التاريخية للعثمانيين، التي حطمت أسطورة "القوة العظمى" لبريطانيا. لو حدث أن وقعت إسطنبول يومها بين يدي الإنجليز والفرنسيين، فإن ذلك كان سيؤدي حتما إلى انهيار بقية الأراضي العثمانية تدريجيا.
كان مصطفى كمال أتاتورك أحد ضباط الجيش العثماني الذي شارك في الدفاع عن مدينة إسطنبول في مواجهة القوات الإنجليزية والفرنسية المشتركة. وقد مهّد هذا النجاح في الدفاع عن المدينة إلى جانب عوامل أخرى، الطريق أمامه للظهور بقوة خلال تلك الفترة، قبل أن يشق طريقه نحو تأسيس الجمهورية التركية لاحقا. لكن هناك رجل آخر، استوعب جيدا بعد عقود من الزمن مقولة؛ "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا". هذا الرجل هو رجب طيب أردوغان الذي كان عمدة مدينة إسطنبول بين سنتي 1994 و1998، وتدرج ليصبح رئيس الوزراء ثم رئيس الجمهورية التركية في سنة 2015. ولقد شهدت مدينة إسطنبول خلال الفترة التي تولى فيها أردوغان مسؤولية إدارتها عملية إصلاح جذري ركزت على إنشاء خطوط مواصلات ونقل قوية وفعّالة، لتصبح المدينة خلال سنوات قليلة قبلة المستثمرين والسياح بعد أن عجزت لسنوات طويلة عن كبح الهجرة العكسية بسبب الفوضى والازدحام التي كانت تعاني منها.
الانقلابيون أيضا استوعبوا هذه القاعدة، ولذلك كانت كل تحركاتهم خلال الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية في ليلة 15 تموز/يوليو 2015، تهدف لإحكام السيطرة على مدينة إسطنبول قبل كل شيء، عندما نشروا دباباتهم على جسر البسفور، ولنفس السبب كان أول إعلان رسمي عن دحر المحاولة الانقلابية في نفس المدينة، عندما وصل أردوغان إلى مطار أتاتورك فجر يوم 16 يوليو/تموز. ويعتقد كثيرون أن توجه أردوغان إلى إسطنبول تحديدا، وإلقائه لأول كلمة بعد دحر المحاولة الانقلابية كان بمثابة الضربة القاضية وواحدة من أبرز الأحداث التي حسمت معركة أطول ليلة وأقصر انقلاب في تاريخ تركيا.
إن المسلّمة التاريخية التي تحدثنا عنها منذ بداية المقال، تسند أساسا على تاريخ مدينة إسطنبول خلال أبرز الحقب التاريخية التي مرت بها، وتسلط الضوء تحديدا على فواصل اسمية ترتبط بالتحول في تسمية المدينة من القسطنطينية إلى إسطنبول، أي تحديدا عندما تحول الجدل إسطنبوليا منذ فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الثاني. أما في العالم العربي، فإن الجدل لا زال في أغلبه بيزنطيا عقيما في مواضيع الدين والسياسة، يخضع لإرادة رجل واحد يعتقد أنه على حق وأنّ الآخرين كلهم على خطأ. ولذلك فإن إسقاط المسلّمة التاريخية لمدينة إسطنبول على إحدى المدن العربية يعكس تناقضاتها التاريخية التي تعارض المنطق، فمن يحكم القاهرة لا يحكم مصر، ومن يحكم دمشق لا يحكم سوريا، ومن يحكم طرابلس لا يحكم ليبيا، فكيف سيحكمون العالم؟
قد تتغير الأسماء والتواريخ لكن النتيجة تبقى دائما واحدة؛ منذ هذه اللحظة هناك أمران مؤكدان: أولا؛ "من يحكم إسطنبول يحكم تركيا"، وثانيا؛ "من يحكم تركيا يحكم العالم"، إذن "من يحكم إسطنبول يحكم العالم".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس