زهراء معاذ - ترك برس

وضع مؤرخون الكثير من الكتب والدراسات التي تشرحُ كمَّ الثقافة التي اقترضتها الدولةُ العثمانية عن الغرب، وقليلون هم الذين تحدثوا عمّا اكتسبته الحضارةُ الغربية من العثمانيين، على الرغم من الوجود الواضح للحضارة العثمانية على حدود البحر الأبيض المتوسط لأوروبا على مدى قرون.

وتعتبرُ الأزياء جزءً هامًّا من التبادلات الواسعة للأفكار التي وقعت بين العثمانيين والغرب، فاللباسُ يعكس كلًّا من الأذواق الشخصية والقيم الثقافية في هذه المجتمعات، كما أنه شكلٌ من أشكال التعبير التي يتشاركُ فيها جميعُ الناس.

ومن أجل تقديم بياناتٍ متماسكة عن تبادل الأفكار في الأزياء بين الشرق والغرب، لا بدّ من معرفة السمات التي ميزت اللباس في كلٍّ منهما:

اعتمد العثمانيون في تصميم ملابسهم على اختيار الأنسب لنمط حياتهم ومناخ رقعتهم الجغرافية. فمثلًا، بما أن الخيلَ كانت جزءًا رئيسيًا في حياتهم، صمّموا البناطيل الفضفاضة التي تسهّلُ عليهم ركوب الخيل، بالإضافة للسترات والمعاطف المفتوحة من الأمام التي يمكن نزعُها بسهولة عند ركوب الخيل كما أنهم كانوا يرتدونها فوق القمصان الخفيفة لتقيهم من برودة المناخ المتقلب، بالإضافة لاستخدام الزنانير لإغلاق الملابس وأيضًا بمثابة أوعية للأغراض الشخصية أو الأسلحة.

وبما أن الأثواب كانت منتشرةً بين الجنسين، فقد كانت الفروق في الأزياء تُلاحظُ عن طريق الاختلافات في الملحقات الأخرى، كالمجوهرات والزينة ونوع النسيج والقبعات. وكانت القبعاتُ في كثيرٍ من الأحيان سمةً خاصة للباس العثماني لدى الرجال والنساء على السواء، وكمسلمين؛ تم تعزيز هذا التقليد من خلال ارتدائها كعمامة للرجال، وكحجابٍ للنساء، فلم تكن النساء التركيات يحجبن وجوههن، وحتى في العصر الإسلامي كان حجاب معظمهنّ أقل تغطيةً من نظرائهنّ العرب.

وكانت الأثوابُ التي احتوت عدة طبقاتٍ لباسًا رسميًا للاحتفالات وعلامةً على الثروة والمكانة. كما أن العثمانيين اعتبروها شكلًا من أشكال المساواة بين اللباس الفاخر والتواضع. وكانوا يقومون بصنع منسوجاتٍ خاصة مزخرفة بشكل متقن، لاستخدامها كغطاءٍ أو تغليفٍ للهدايا أو لتخزين بعض الأشياء ذات القيمة الخاصة والتي قد تكون هي نفسها من الملابس أو المنسوجات.

وبمجرّد دخولهم الإسلام، أراد الأتراك اختيارَ لباسٍ يكون علامةً خاصةً للمسلمين بما أن المجتمع العثماني ضمّ العديدَ من الجماعات العرقية والدينية، وبالفعل أصبح لباسُهم دالًّا على انتمائهم الديني، وظلت تلك الأشكال من اللباس على حالها دون تغييرٍ على مر القرون، ولا سيما بالنسبة للرجال، باستثناء بعض التغييرات الحركية في القبعات. وبالنسبة للنساء، ظلت الأشكال الأساسيةُ نفسها أيضًا على الرغم من حدوث بعض التغييرات التدريجية في اللباس والإكسسوارات. وحقيقةُ أن العديد من البنود في الخزائن الملكية المحفوظة في قصر توبكابي لا يمكن تأريخها إلى عهدٍ معين وربما حتى لا إلى قرنٍ معين تؤكد استقرار أشكال اللباس العثماني وخاصة في فتراته الأولى. وقد بدأ معدلُ التغيير يزداد في القرن الثامن عشر، مع اتساع نطاق السلع الاستهلاكية وتزايد انتشار الأذواق الجديدة وأفكار الموضة.

 

أما الأوروبيون، فقد كانت السمةُ الأساسيةُ لملابسهم أنها كشفت أكثر عن ملامح الجسم مما فعله اللباس في الشرق. وفي أوائل العصور الوسطى كانت ملابسُ الرجال والنساء مركزةً أكثر على الجزء العلوي من الجسم، بحيث لا يصل الثوبُ إلى الكاحلين.

اعتادَ الأوروبيون ارتداء الملابس الخارجية كغطاء الرأس والعباءات لأغراضٍ وظيفية و للاحتفالات، كما انتشرت السراويلُ أيضًا قبيل الحروب الصليبية، فمع بداية القرن الرابع عشر، بدأ ظهورُ شكلٍ جديدٍ للباس، حيث صنع مصممّو الملابس أغطيةً منفصلة لكل ساق والتي أصبحت فيما بعد قطعةً واحدة "بنطلون"، وقد كانت مخصصةً للرجال فقط. أما بالنسبة النساء، فكانت السيقان مغطاةً بالتنانير الطويلة.

تعرضَّ الزيُّ الأوروبي للكثير من التغييرات الدراماتيكية لدرجة أن شخصًا من القرن الخامس عشر ليس بإمكانه تمييزَ أوروبيّي القرن الرابع عشر. ويجدُ المؤرخون في مجال الأزياء أنه من السهل حتى الآن تحديد الملابس الأوروبية التي نجت من تلك الفترة، فمع التغيير السريع والكبير للموضة لم يتبقّ سوى القليلُ منها.

وبعد أن كانت الملابس في أوروبا تمتازُ بقصر كمَّها أو عدم وجود أكمام، بدأ الأوروبيون بتصنيع المعاطف ذات الأكمام الطويلة بعد الحروب الصليبية، بالإضافة لبدء صناعة الـ بيليسونس مع بداية القرن الرابع عشر، وهي الملابس الخارجية المبطنة بالفراء والتي ارتداها النساءُ والرجالُ في الدولة العثمانية، كما استخدمَ بعضُ الأوروبيين الزخرفة التركية على أكمام معاطفهم.

وفي نهاية القرن الخامس عشر ظهرت في إيطاليا المعاطف القصيرة الفضفاضة المأخوذة عن العثمانيين. ومن المعروف أن هنري الثامن كان يحبُّ ارتداء الزي التركي، وكان يحتفظُ في قصره بلوحةٍ للسلطان سليمان القانوني توضّحُ تفاصيل زيّه العثماني، ولكن بسبب قِدم الصورة وضياع بعض تفاصيلها يعتقد البعضُ أنها ترجع للسلطان محمد الثالث من القرن السادس عشر. كما أخذ الأوروبيون عن العثمانيين أزرار الملابس، بعد أن كان الأوربيُّ يثبتُ ملابسه أو يربطها بالدبابيس والأربطة القماشية.

وقد شملت المفاوضات التجارية بين الإمبراطورية العثمانية والمملكة الإنجليزية سنة 1581 تبادل الهدايا الملكية، حيث قام السلطان مراد بإرسال مجموعة كاملة من الملابس التركية إلى الملكة إليزابيث.

ولم تكن القبعات كثيرة الاستخدام في الغرب قبل الحروب الصليبية، فقد كانوا يرتدونها فقط لأجل الحماية من الشمس أو المطر أو كـ خوذ أثناء الحروب، حتى بدؤوا باقتراضها من العثمانيين الذين كانت القبعة عنصرًا هامًّا في احتفالاتهم وأيضًا في التعبير عن انتمائهم، فبحلول القرن الحادي عشر انتشرت العمامة، العلامة الفارقة للمسلم، في أوروبا، وقد ظهر هذا التأثير بشكلٍ بارزٍ ما بين العامين 1380 و1580.

وبين عامي 1380 و1450 انتشرت التوربانات في الأوساط الأوروبية، وهي قطعة طويلة من القماش تُلفُّ حول الرأس مغطيةً الشعر بأكمله، تمّ استلهامها من "العمامة". وقد عاد انتشارُها حديثًا في القرن الـ 21 وتعدُّ اليوم إحدى آخر صيحات الموضة بالنسبة للفتاة المحجبة وغير المحجبة.

وتعتبرُ فكرةُ "الطبقاتُ" في الملابس سمةً مميزةً جدًا للباس المرأة العثمانية، ولم تكن هذه الفكرةُ موجودةً في أوروبا حتى بدأ انتشارُها في القرن الثاني عشر. فأصبحت الأوروبياتُ يرتدين الأثواب التي تحتوي على عدة طبقات من الأقمشة، ومن السهولة ملاحظةُ ذلك عند الاطلاع على تاريخ الغرب، فحتى أميراتُهم وملكاتُهم اعتدنَ على ارتداء هذا الزي.

ولا زال بحوزة كتب التاريخ، الكثيرُ من الأزياء والاكسسوارات التي بالإمكان التحدث عنها، والتي انتقلت من المجتمع العثماني إلى المجتمع الغربي وأصبحت فيما بعد سمةً مميزةً للباس الغربي. 

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!