ندرت أرسنال  - يني شفق

لقد تحقق الكابوس الذي ظلّ يراود أوروبا كل ليلة، فقد جاء اليوم الذي انعقد فيه أول تواصل رسمي بين ترامب وبوتين عبر مكالمة هاتفية، ليعيد تشكيل العلاقات الداخلية في الغرب. ولن يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل سيمتد ليعيد رسم خارطة علاقات الغرب بالعالم أجمع.

ونظرا لكون ترامب شخصية طاغية الحضور، فقد أصبحنا نُرجع أسباب التغييرات مجددًا إلى الأفراد فقط، ولكن الحقيقة أن ترامب ليس سوى راكب لموجات "النظام العالمي الجديد". فكلاهما يغذي الآخر. ولو كان بايدن هو الفائز، لما تغيّر الاتجاه نحو التعددية القطبية، بل كان سيأخذ مسارًا أكثر اضطرابًا وتعقيدًا.

ولا تنخدعوا بالخطابات الطويلة التي تحلل موقف أوروبا. فالأمر ببساطة أن القادة الأوروبيين من أنصار بايدن. وهذا التأييد ليس منحصرا لشخص بايدن، فهم من أنصار أوباما أيضًا. إننا نتحدث عن مدرسة فكرية واحدة، وهي نفس المدرسة التي تتبناها الأوساط المؤيدة لأمريكا في تركيا.

لسنا بصدد نقاش "أيّهما أفضل؟"، بل نحاول استكشاف ما الذي يحدث بالضبط.

إن التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية ووزير الدفاع الأمريكي والرئيس نفسه، بالتزامن مع اتصال ترامب ببوتين تشير إلى أن أوروبا وحتى حلف الناتو والولايات المتحدة قد هزمت، ما لم تسفر المفاوضات الأوكرانية عن نتائج مغايرة مع مرور الوقت. غير أن هذه الحقيقة المُرّة لا تعني ترامب في شيء، فهو لا يرى نفسه مسؤولًا عنها. إذ يردد باستمرار أنه لو كان هو الرئيس لما اندلعت هذه الحرب أصلًا، وهذا ما يقصده بكلامه.

إن هزيمة أمريكا وأوروبا هي هزيمة لأنصار بايدن وجذورهم. وما يثير الفزع لدى النخب الحاكمة في أوروبا ليس سقوط أوكرانيا بحد ذاته، بل إدراكهم أنهم يسقطون معها، وليس سقوطا سياسيا فحسب، بل يتعداه إلى السقوط العالمي. فالاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بأوروبا، وحقيقة أن صناديق الاقتراع ستسفر عن تغيير في المقاعد أو اقتسام السلطة مع المعارضة في العديد من الانتخابات القادمة، كل ذلك يعني نهاية حقبة. إن هذه القيادات التي تفتقر إلى الكفاءة، والتي تشكو منها جميع الدول بما في ذلك تركيا، عاجزة عن فهم الحقائق العالمية الجديدة والتكيف معها، وتواجه صعوبات كبيرة في مواجهة الضغوط التي تمارسها عليها إدارة ترامب والتغيرات العالمية المتسارعة.

لا تنخدعوا بقلة المقاعد؛ فالطاولة الأوكرانية كبيرة، وما تعترض عليه أوروبا وكييف بشأن تهميش دورهما ليس سوى انعكاسا لخوفهما من الإقصاء التام والخروج من اللعبة. لا يسعنا سوى أن نشعر بالأسى على أوكرانيا؛ فهي على وشك خسارة أرض لها، والتوقيع على شروط استسلام، والتفريط في ثرواتها الطبيعية، فضلا عن عشرات الآلاف من الضحايا، وبلد سيدفع الثمن لعقود قادمة. أما مصير زيلينسكي، فهو مجهول. وقول ترامب لبوتين: "يجب إجراء انتخابات"، فذلك ليس سوى رسالة مبطنة لمصير الرئيس الأوكراني. والسبب في كل ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً مدرسة بايدن الفكرية.

لقد أسند ترامب ملف الشرق الأوسط إلى الممثل الخاص ستيف ويتكوف، والآن أصبح ملف أوكرانيا أيضًا تحت إدارته. وهذا يوضح العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط، ويُفسر كيف ولماذا قام البيت الأبيض الجديد بتوحيد منطقتين كبيرتين. كما أن اختيار المملكة العربية السعودية لعقد لقاء ترامب وبوتين يشير إلى نفس الصلة. وبينما تتشابك ديناميكيات روسيا وأوكرانيا، فإن نتائجها ستنعكس على مناطق أخرى.

أو ما يبدو للوهلة الأولى مختلفًا، يتطلب منا قراءته كأحد الطبقات المختلفة لنفس السياسات؛ هناك هجمات من إدارة ترامب تستهدف مؤسسات رسمية وإعلامية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ورويترز، وإذاعة صوت أمريكا، وإذاعة أوروبا الحرة. كل هذه الهجمات موجهة ضد ما يسمى بـ "النظام الأمريكي المؤسسي" المشوه. وهذا نابع من الرأي القائل بأن الحرب الروسية الأوكرانية والثورات الملونة من تنظيم وإدارة هذه المؤسسات.

وبالطبع وراء هذه المؤسسات تقف وكالات الاستخبارات الأمريكية أو مكتب التحقيقات الفيدرالي أو وكالة الاستخبارات الوطنية التي تجمع أكثر من عشرة أجهزة استخبارات تحت سقف واحد، وكلها تتعرض للهجوم والضغوط من قبل حكومة ترام، فتتغير إداراتها، ويُعيّن مدراء موالون، ويتم استبعاد المسؤولين من العهد السابق، وتُعدل وظائفها واختصاصاتها.

هناك أيضًا انتقام سياسي هنا، لقد سبق أن أشرنا إلى أن ترامب ربط بين الاغتيالات التي تعرض لها كينيدي وكنغ وغيرهما، وبين محاولات الاغتيال التي تعرض لها هو، مشيرًا إلى أن وراءها القوى نفسها، حيث يقول ترامب "الذين قتلوا كينيدي والذين حاولوا اغتيالي هم من نفس النظام". يجب أن نرى أنه يقصد أن "الذين بدأوا الحروب وأحدثوا الانقلابات والثورات في جميع أنحاء الحرب الباردة وما تلاها، سواء كانوا من المؤسسات الأمريكية أو من المنظمات غير الحكومية، هم نفسهم من أشعلوا الحرب في أوكرانيا." إن منح بايدن ميدالية الدولة لسوروس، مقابلَ معارضة ترامب الصريحة له يؤكد هذا الطرح.

ولذلك يجب أن ننتبه جيدًا إلى تصريحات بعض المنظمات غير الحكومية التي استعادت نشاطها في تركيا مؤخرًا، وكذلك المقالات التي تهاجم مؤسسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتي تمثل إحدى فروع دولة أخرى. إن الرمزية الكامنة في كِبَر طاولة المفاوضات الأوكرانية تظهر هنا

والأمر لا يتعلق فقط بتطهير البيروقراطية الفاسدة في الولايات المتحدة، بل بتطهير النخبة العالمية الفاسدة التي تم ترتيبها وفقًا للنظام الغربي.

فهل يجب أن نُقدس "ترامب"؟ لا علاقة لذلك بالموضوع. فلا تزال القضية هي الولايات المتحدة، يجب ألا ننخدع بالأوهام التي تشجعنا على التركيز على الأفراد. فإذا حدث ذلك، سنكون قد غفرنا للنظام الغربي الذي تسبب في تحويل العالم إلى حمام من الدم عبر "الظلم الأحادي القطب" على مدى القرن الماضي وإذا حدث هذا فلن يتغير شيء.

وعندما لا يتغير شيء، فإنهم يقدمون خطة معيبة مثل "ريفييرا غزة" التي لا يمكن وصفها إلا بـ "الدنيئة. (من جهة أخرى، يبدو أن هذه الخطة تنطوي على نوع من الخبث والخداع "كمن يعرض الموت ليجعل الناس ترضى بالمرض". إذا ظهرت خطة بديلة، فلنفكر فيها أولاً.)

لكن اللقاء الروسي الأمريكي سيترتب عليه أيضًا نتائج جيوسياسية، وهذا يهمنا. إن السؤال "أين ستقف روسيا؟ وفي يد من ستبقى؟"، إذا قرأناه في سياق الصين، لن يكون مضللاً، لكنه غالبًا ما يُطرح هكذا: "هل هي إلى جانب الولايات المتحدة أم إلى جانب الصين؟".

لستُ واثقاً، فالتفسير القائل بأن "ميل روسيا إلى الغرب لن يتغير" يتجاهل الدروس التي استخلصتها من حرب أوكرانيا. كما أن اتفاقًا أوكرانيًا يضمن الحدود الأوروبية لا يعني بالضرورة تنفير الصين. يجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن موسكو ستطالب بأوراسيا لتحقيق ذلك.

عن الكاتب

ندرت أرسنال

صحفي وكاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس