د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

كان سفيان بن عيينة رحمه الله من علماء الأمة وأعلامها، فكان شيخ الإسلام في عصره، عالماً محدثاً، حافظاً للسنن، عارفاً بالقرآن وعلومه، وهو الثقة المتقن، المجمع على ثباته ورسوخه، أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام، وهو علم من أعلام أتباع التابعين ومحدث جليل، مجمع على صحة حديثه وروايته، اشتهر بزهده وعبادته، وعلمه الغزير ورأيه المستنير، إنه الإمام الجليل أبو محمد سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى.

اسمه ومولده ونشأته:

أَبُو مُحَمَّد سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ بنِ أبي عِمرانَ مَيمونَ الهِلاليّ (107هـ - 198ه / ق. 725م - 814م)، هو محدث من تابعي التابعين. ولد ونشأ بالكوفة وسكن مكة وتوفي بها. طلب الحديث وهو غلام وسمَّع في سنة 119هـ بعدها: علقمة بن مرثد ويعلى بن عطاء، ووقدان أبي يعفور العبدي، وشبيب بن غرقدة البارقي، ويحيى بن دينار، وأبا إسحاق السبيعي، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم. له من الشيوخ الكثير وجُلُّهم من التابعين، فلا يكون بينه وبين الصحابي سوى شخص واحد، ولا بينه وبين محمد ﷺ إلا شخصان؛ تابعي وصحابي.

لقي كبار السَّلف وأخذ عنهم عِلمًا جمًّا، وكان حافظًا ثقةً، واسعَ العلم كبيرَ القدر. عَمَّر دهرًا وانتهى إليه علوُّ الإسناد. عاش في القرن الثاني الهجري، فلم يكُن يَتَّبع فقه أحد، بل كان صاحب مذهب مُستقلٍّ، فهو من أئمة الفقه والحديث البارزين، وكان مُضاهياً للإمام مالك، إذ قال عنه الشافعي: «مالك وسفيان بن عيينة القرينان، يعني في الأثر» (تاريخ بغداد، البغدادي، ج. 10، ص. 250). 

نشأته العلمية وعلمه:

طلب علم الحديث وهو غلام، فلقي -رحمه الله- ستة وثمانين رجلاً من أعلام التابعين، وسمع الحديث وحفظه من أئمة التابعين ومنهم: عمرو بن دينار، وزيد ابن علاقة، وابن شهاب الزهري، وعبيد الله ابن أبي يزيد، وعبد الملك بن عمير، والشيباني، وسليمان التيمي، وأيوب السختياني، وداود بن أبي هند، -رحمهم الله-، وانفرد بالرواية عن كبار التابعين، ونقل عنه الحديث كثير ممن عاصروه ومن بعدهم، كالشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، ووكيع، وابن المديني، وإبراهيم الرمادي -رحمهم الله-، قال عنه الشافعي -رحمه الله-: " لولا مالك وسفيان ابن عيينة لذهب علم الحجاز"، وجمع سفيان -رحمه الله- أحاديث أهل العراق والحجاز، فتفوق على الإمام مالك -رحمه الله- في نقله لأحاديث الأحكام، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أصول الأحكام نيف وخمسمائة حديث، كلها عند مالك إلا ثلاثين حديثاً، وكلها عند ابن عيينة إلا ستة أحاديث"، فمالك وسفيان -رحمهما الله- نظيران في الإتقان إلا أن مالكاً يفوقه في علو الإسناد (شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، صفحة 457. بتصرّف، ط الرسالة).

كُتب عنه الحديث سنة اثنتين وأربعين ومئة، وهو في الخامسة والثلاثين من عُمره، وقال عنه الإمام البخاري: "ابن عيينة أحفظ من حماد بن زيد"، وقال يحيى بن آدم: "ما رأيت أحداً يختبر الحديث إلا ويخطئ إلا سفيان بن عيينة"، وكان عالماً بتفسير القرآن، والحديث، وقيل أنه فيهما أعلم من سفيان الثوري (حياة التابعين، ياسر الحمداني، صفحة 746. بتصرّف).

كان -رحمه الله- واسع العِلْم، حتى قال عنه الشافعي (ت: 204هـ): «ما رأيت أحدًا فيه من آلة العِلْم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيتُ أكَفّ عن الفُتيا منه»، وقال نعيم بن حماد (ت: 228هـ): «ما رأيتُ أحدًا أجمع لمتفرّقٍ من سفيان بن عيينة»، وقال الذهبي: «...سفيان حُجّة مطلقًا، وحديثه في جميع دواوين الإسلام".

برز -رحمه الله- في علوم الحديث روايةً ودراية، وفي التفسير، والرقائق والحِكَم، وقد صنّف كتابًا في التفسير -كما سيأتي-، ونُسب إليه كتاب (جوابات القرآن)، وقيل إنّ تلاميذه جمعوا له جامعه.

وقد روي الكثير من العلم عن سفيان بن عيينة رحمه الله، وكانت أقواله في بعض المسائل حجةً في العقيدة وأصول الفقه، ومنها عندما سأله رجل عن الإيمان فقال سفيان: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار سفيان بيده، قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون: أن الإيمان قول لا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث نبينا محمدًا ﷺ إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأنه رسول الله. فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم، أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم، أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم، حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا صلاتهم، ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتالهم، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا، وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم,ولا هجرتهم ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها، فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها، فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم ولا قتالهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)) [المائدة:3] (كتاب الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري، ص104) (فقه النصر والتمكين، الصلابي، ص 144).

تفسيره ومكانته عند المفسِّرين:

بلغ -رحمه الله- مبلغًا عظيمًا في تفسير كتاب الله -إضافةً إلى تضلّعه في علم الحديث- حتى أثنى عليه معاصروه؛ قال عبد الله بن وهب (ت: 197هـ) -تلميذ مالك وعبد الرحمن بن زيد وراوي تفسيريهما-: «لا أعلم أحدًا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينة»، وقال عبد الرحمن بن مهدي (ت: 198هـ): «عند ابن عيينة من معرفته بالقرآن وتفسير الحديث ما لم يكن عند سفيان الثوري»، وقال نعيم بن حماد (ت: 228هـ): «كان ابن عيينة من أعلم الناس بالقرآن». لم يخرج منهج ابن عيينة عن منهج معاصريه من كونه تفسيرًا مسندًا إلى الصحابة والتابعين إضافة إلى المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع بعض اجتهاداته التي نُسبت إليه، كذلك لم يكن متناوِلًا لتفسير القرآن آية آية ( تفسير سفيان بن عيينة، خالد الواصل).

ثناء العلماء على سفيان:

قال أبو نعيم: "ومنهم الإمام الأمين ذو العقل الرصين، والرأي الراجح الركين، المستنبط للمعاني المرتبط بالمباني، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي، كان عالماً ناقداً، وزاهداً عابداً، علمه مشهور، وزهده معمور".

قال الذهبي: "طلب الحديث وهو حدث، بل غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علماً جماً، وأتقن وجود وصنّف، وعمّر دهراً، وازدحم الخلق عليه، وانتهى إليه علو الإسناد -لأنه جاوز التسعين سنة- ورُحل إليه من البلاد، وألحق الأحفاد بالأجداد".

وقال علي بن المديني: "ما من أصحاب الزهري أحد أتقن من سفيان بن عيينة".

وقال أحمد بن عبد الله العجلي: "كان ابن عيينة ثبتاً في الحديث، وكان حديثه نحواً من سبعة آلاف ولم تكن له كتب، أي: أن ضبطه كان ضبط صدر وليس ضبط كتاب".

وقال بهز بن أسد: "ما رأيت مثل سفيان بن عيينة، فقيل له: ولا شعبة؟ قال: ولا شعبة".

وقال أبو حاتم الرازي: "سفيان بن عيينة إمام ثقة، كان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة، قال: وأثبت أصحاب الزهري هو ومالك".

وقال علي: وسمعت بشر بن المفضل يقول: "ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه سفيان بن عيينة". ( من أعلام السلف، أحمد فريد، م18، ص3).

وفاته:

توفي سنة 198 هجريّة، عشية السبت في آخر يوم من جمادى الآخرة. وقيل في أول يوم من رجب (ليلة السبت)، وله إحدى وتسعون سنة، ودُفن بالحَجُونِ (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان).


المراجع:

فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2006.
تاريخ بغداد، ابن الخطيب البغدادي، تحقيق: بشار عواد معروف (ط. 1)، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2001م.
حياة التابعين، ياسر الحمداني.
كتاب الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين الآجري. 
تفسير سفيان بن عيينة، خالد الواصل، مركز تفسير للدراسات القرآنية.
 من أعلام السلف، أحمد فريد.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، 1978م.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس