ياسين أقطاي - يني شفق

إن راشد الغنوشي ليس مجرد سياسي تونسي، بل هو شخصية تتجاوز حدود تونس وتضطلع بدور فكري وثقافي أوسع نطاقاً، فهو مفكر وكاتب يقدم رؤى قيمة للعالم الإسلامي، بل وللعالم المعاصر كله إن عُرف قدره. إنه فيلسوف نهل من آفاق الفكر والتاريخ في الأرض التي أنجبت ابن خلدون، حتى غدا بحق سياسيا حكيما بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

إن العمق الفكري الذي يظهر جليا في كتاباته وخُطبه، واتساع رؤيته، وشخصيته القيادية والسياسية والروحية، وأسلوبه السياسي القائم على أسس فكرية وفقهية متينة، تشكل بحق منهجا اجتهاديا في علم السياسة الإسلامية، وإن كان هذا المنهج كغيره من الاجتهادات يحتمل الخطأ والصواب.

ولكل من يبحث في العالم الإسلامي عن الفكر العميق والرؤية البعيدة والطرح المستنير، فإن الغنوشي يشكل إحدى أهم المحطات التي لا بد من التوقف عندها. لكنه ليس مثقفاً منعزلاً في برج عاجي، بل مفكرٌ عاش فكره في الميدان، واضعاً يده على الجمر، يشارك الناس همومهم، ويتحمل المشاق، ويدفع ثمن مواقفه، ويواجه الحقائق دون أن يتنازل عن قناعاته. ولذلك لم يكن يوما وحيدا في مسيرته، بل كان دائمًا محاطا برفاق دربه، يسير معهم بروح التضامن والتآزر، يقتسم معهم الأعباء والآمال، مجسدا معاني الصداقة الحقيقية.

ما دفعني إلى استذكار هذه الكلمات التي سبق أن كتبتها عن راشد الغنوشي في هذا العمود، هو المفارقة المؤلمة التي يعيشها اليوم، إذ بدلاً من أن تُناقش أفكاره، وتُستلهم نصائحه، ويُستفاد من رؤيته، نجد أنه يقبع في السجن. إنها صورة تعكس بوضوح أحد العوامل الجوهرية للتخلف المزمن الذي يعاني منه العالم الإسلامي، وتجعلنا في غنى عن البحث عن أسباب أخرى لهذا التخلف الذي يبدو عصيا على التغيير.

منذ فترة وجيزة قدّم أستاذ العلوم السياسية الأمريكي أندرو مارش في معهد الفكر الإسلامي في أنقرة كتابه "حول الديمقراطية الإسلامية"، والذي نشرته جامعة أكسفورد، ويتضمن مقابلاته ونقاشاته مع الغنوشي. ورغم أنني كنت المشرف على تلك الجلسة لم تسنح لي الفرصة سابقًا للكتابة عن هذا الحدث بسبب كثافة المستجدات والتطورات التي شهدتها الفترة الأخيرة.

وكما هو متوقع، فإن هذا الكتاب يعد بمثابة ملخص محدث لأفكار الغنوشي حول الديمقراطية، التي نضجت عبر كفاحٍ امتدَّ طوال حياته، بل ربما كانت هي التي قادت ذلك الكفاح. وقد جاء هذا العمل ثمرة جهد فكري مشترك بين أندرو مارش وراشد الغنوشي.

وأندرو مارش هو باحث وأكاديمي متخصص في الفكر السياسي الإسلامي والفلسفة السياسية المقارنة، ويُعَدُّ من أبرز من تناولوا العلاقة بين الأخلاق الإسلامية والشريعة والأيديولوجيات السياسية الحديثة، بما فيها الديمقراطية. ومن أهم إسهاماته تحليله لفكرة "الديمقراطية الإسلامية"، التي تركز على كيفية توافق المبادئ الإسلامية مع الحكم الديمقراطي في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة.

ويُبرز مارش كيف يمكن للأطر الإسلامية أن تستوعب التعددية، والحقوق الفردية، والمشاركة السياسية، كما يوضح كيفية معالجة التحديات الناجمة عن التوترات بين السلطة الدينية والمعايير الديمقراطية العلمانية. وتدعم نتائج أبحاثه الفكرة القائلة بأن القيم الدينية يمكن دمجها مع المبادئ الديمقراطية.

وفي سياق البحث عن فهم أعمق لمفهوم "الديمقراطية الإسلامية"، ولا سيما تجربة تونس، لاحظ مارش أن هناك إجماعًا نادرًا بين العديد من القادة والمفكرين التونسيين على أن شخصية راشد الغنوشي وفكره وابتعاده عن القضايا التافهة وجميع أشكال الشبهات والفساد تمثل فارقًا مهمًا، ويعتقد مارش أن هذا الفارق نادر جدًا بين السياسيين العرب، بل قد يكون معدومًا.

ويرى مارش أن الغنوشي وحركة النهضة، رغم اتخاذهم قرارات صعبة، كانوا دائما يسعون لتطبيق المبادئ الديمقراطية.

ويتضمن الكتاب الذي قدمه مارش خلال اللقاء في أنقرة، أكثر من 80 صفحة من المراسلات بين مارش والغنوشي حول مفهوم الديمقراطية والدولة الإسلامية، بالإضافة إلى عشرة من مقالاته المنشورة. وفي معرض شرحه لأسلوب الغنوشي في السياسة، يشير مارش إلى أن السياسي ليس لديه رفاهية العزلة، بل يجب أن يكون دائمًا في تفاعل مع الجميع ويعمل معهم.

ويشر مارش إلى أهمية الخطوات الديمقراطية التي مهدت الطريق لوصول تركيا إلى موقع القيادة في العالم الإسلامي والعالم أجمع، كما قام بتقييم محتوى الحوار الذي دار مع الشيخ الغنوشي حول مفاهيم الديمقراطية والتعددية والعلمانية.

ووفقًا لمارش، فإن تجربة بورقيبة العلمانية في تونس التي تعتمد على العلمانية الفرنسية ورفض الدين بشكل كامل قد تكون هي التي دفعت الغنوشي إلى تطوير مفاهيم سياسية جديدة تهدف إلى حماية الأمة من المخاطر الناجمة عن إقصاء النظام الأخلاقي والقيمي، وما نجم عن ذلك من انتهاكات تعرض لها الشعب والبلاد.

وفي مراسلاتهما، يؤكد الغنوشي أن أساس العمل السياسي يكمن في التوافق بين أفراد المجتمع، وأنه لا يحق لأحد إجبار الآخرين على اعتناق دين أو أيديولوجيا معينة، وأن احترام حرية المعتقد السياسي وحرية الفرد يعد أمرا أساسيا.

ويحرص الغنوشي في جميع خطاباته على تضمين العبارات الواردة في وثيقة المدينة التي تضمن الحرية والمشاركة على أساس احترام الجميع ومشاركة جميع فئات المجتمع في القول والعمل. ويشير مارش إلى أن تأكيده على هذه المفاهيم يشكل مرجعًا بالغ الأهمية.

كما قدم مارش في عرضه مقتطفات من تجارب الغنوشي، وقراءاته لكتب سيد قطب، والمناقشات التي أجراها مع المفكر الجزائري مالك بن نبي، موضحًا كيف استفاد من هذه الأفكار وكيف استخدمها لإثراء مفهوم الديمقراطية الحقيقية.

وكان العرض الذي قدمه عالم السياسة مارش حول الغنوشي وأفكاره ذا قيمة كبيرة من حيث إظهار مدى تناسب أفكار الغنوشي مع سياق علماء السياسة والاجتماع.

ويمتلك الغنوشي نهجًا داخليًا قويًا ومتماسكًا في المناقشات المتعلقة بالديمقراطية. وعند يتحدث عن الديمقراطية، لا يتحدث أبدًا عن أداة يستخدمها فقط للوصول إلى هدف معين. وبهذا لا يشير إلى تطبيق مبدأ الشورى الإسلامي بالطريقة التقليدية التي قد تكون غير ملائمة للعصر. بل على العكس، يرى الغنوشي أن الشورى، كما هي للمسلمين جميعًا، قيمة ومبدأ له أيضًا. ويُعتبر الغنوشي، إذا جاز التعبير، مفكرًا يبحث في إمكانيات الاجتهاد السياسي الجديد المستوحاة من مبدأ الشورى لدى المسلمين المعاصرين.

ألا تدل المعاملة التي يتعرض لها اليوم ـ رغم كل تأكيده على الديمقراطية ـ وصمت العالم الديمقراطي إزاءها، على أن الديمقراطية في العالم الإسلامي مجرد كذبة؟ ألا تكشف هذه المعاملة التي يتعرض لها هو ومفكرون إسلاميون آخرون بما فيه الكفاية من هم أعداء الديمقراطية وحرية الفكر في العالم الإسلامي؟

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس