ترك برس

"حماية تشاتال هويوك"، كتاب ألّفه رجلٌ لم يتعدَّ في تعليمه المرحلة الابتدائية، وهو يُدرَّس الآن في جامعة بينغهامتون الأمريكية.

يبلغ الكاتبُ صدر الدين دورال الرابعة والخمسين من العمر، وقد ولد في مدينة قونيا ونال تعليمه الابتدائي فيها، في كوتشوك كوي في حي تشومرا. كان يعمل سائق أجرة قبل أن يبيع سيارته ليبدأ بالعمل كحارسٍ للموقع الأثري الشهير تشاتال هويوك والذي يعود تاريخه بحسب العلماء إلى تسعة آلاف عام. وأثناء عمليات الحفر في الموقع، التقى صدر الدين بالبروفيسور إيان هودَر والذي أحبّ بشدةٍ التواصل مع صدر الدين، وقام بطلب مترجمٍ لكي يتمكن من الحديث إليه. بعد ساعاتٍ عديدة من التواصل بين الاثنين، وبعد أن أحسّ صدرُ الدين بأنه يمتلك معلوماتٍ هامةٍ بإمكان بروفيسور في علم الآثار أن يستفيد منها بالرغم من تواضع مهارات صدر الدين التعليمية، قرّر أن يكتب كتابًا عن تشاتال هويوك.

وبالفعل، أنجز صدرُ الدين عملًا يستحق التقدير، وقام هودَر بمساعدته في نشر كتابه باللغة الإنجليزية في شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تم نشر الكتاب قبل تسع سنواتٍ من الآن، وقام قسم الآثار بجامعة بينغهامتون الأمريكية باستخدامه ككتابٍ دراسي.

لم يكن صدر الدين سعيدًا في حياته السابقة قبل العمل في تشاتال هويوك، فقد كان بعيدًا عن الناس محاولًا تجنب الاختلاط بهم، أو بالأحرى، محاولًا تجنب الأذى الذي قد يسببونه له، فقد كان يمتلك صورةً تشاؤمية للحياة بسبب مواقف مرّ بها وأثرت فيه. إلا أن العمل في تشاتال هويوك استطاع تغييره للأفضل، بل وغير نظرته للحياة إلى شكلٍ مختلف أكثر تفاؤلًا وفاعلية.

يقول صدرُ الدين: "بعد أن بدأتُ العمل هنا، التقيتُ بأشخاصٍ لم يعرفوا الشرّ أبدًا، وأضاؤوا حياة الناس من حولهم".

لم يكن التوقف عن التعليم في وقتٍ مبكر أمرًا عابرًا في حياته، بل أراد صدر الدين وبشدة إكمال تعليمه حيث يقول: "شعرتُ بالندم لأنني لم أكمل تعليمي، لكن الوقت كان قد فات في ذلك الحين، فقد كنتُ متزوجًا وعندي أطفال. لذلك السبب، لم أمتلك فرصةً أخرى من أجل التعلم".

وعن الأشخاص الذين التقى بهم في تشاتال هويوك وغيّروا حياته للأفضل، يقول صدر الدين: "أشكر الناس الذين جاؤوا إلى تشاتال هويوك، لقد منحوني الإلهام لكي أطوّر من نفسي وأستغلّ مهاراتي الحالية وأحسنها. لقد ساهم هؤلاء الناس بشكلٍ كبيرٍ في تغيير شخصيتي وحياتي للأفضل، لكنني لم أستطع تقديم أي شيءٍ لهم في المقابل. من أجل ذلك، وبما أنني كنتُ قادرًا على تقديم معلوماتٍ عن تشاتال هويوك إلى هؤلاء الناس، فعليّ إذًا أن أكون وفيًّا لكل ما تعلمته وعرفته عن هذا المكان، وأن أقوم بإفادة الجميع من خلال معرفتي هذه".

وعن مساعدة البروفيسور إيان هودَر يقول: "لقد أخبرني البروفيسور إيان أنه سيقوم بتعليمي عن تشاتال هويوك، بشكلٍ يمكّنني من الكتابة بوعي وأسلوبٍ أفضل. أعطاني دروسًا لمدة 52 ساعة بمساعدة مترجمه الخاص سنة 1997. بعد تلقّي تلك الدروس، تغيرت نظرتي لتشاتال هويوك بشكلٍ دراماتيكي. لقد بتُّ أفهم كم هو ثمينٌ ما يوجد تحت هذا المكان الذي كنتُ أقوم برعاية الأغنام فيه في السابق. الأمر الذي أحزنني أكثر من أي شيء، أنني لم أكن واعيًا بقيمة هذا المكان وما يحتويه. باختصار، لقد وقعتُ في حب تشاتال هويوك".

كان صدرُ الدين يشعر بعدم الثقة حينما كان يأتي الزوارُ إلى هذه المنطقة الأثرية ويسألون مسؤولي عمليات الحفر عن تاريخها وعن القصص التي حصلت فيها، ولكن لا أحد يأتي إليه ليسأله بالرغم من أنه يمتلك معرفةً أكبر عنها من تلك التي يمتلكها مسؤولو الحفر، إلا أن ذلك الوضع قد تغير منذ أن نشر الكتاب. يقول نصر الدين: "لقد نشرتُ كتابي سنة 2007. كتبتُ فيه عن بعض أجزاء حياتي والمشاكل التي واجهتها أثناء عملي هنا بالإضافة إلى الجماليات التي رأيتها وعشتها في هذا المكان. يعتبر الكتابُ اليوم كتابًا تدريسيًا تكميليًا في جامعة بينغهامتون، ولا يزال يُباع على مواقع الإنترنت الشهيرة على مستوى العالم. ومنذ ذلك الحين، يأتي زوارُ المنطقة الأجانب إلي لسؤالي عن كل ما يخص تشاتال هويوك، إنني سعيدٌ جدًا لأن الناس باتوا يقدّرون المعلوماتِ التي أحملها عن هذا المكان". وأعرب صدرُ الدين عن سعادته بعد أن صار الآخرون يوجهون له كلمة "أستاذ".

قصة الطفولة في تشاتال هويوك، موضوع كتابه الثاني

واجه صدرَ الدين انتقادات بعد نشر كتابه الأول باللغة الإنجليزية، وعن ذلك يقول إنه لم يتوقع أن يُلاقى نجاحه وإنجازه الكبير بتلك السلبية. لذلك، قرر أن يكتب كتابًا آخر عن تشاتال هويوك يحكي فيه قصة الطفل صدر الدين دورال الذي عاش في هذه المنطقة.

ولأجل هذا تقدّم إلى وزارة الثقافة والسياحة بحافزٍ من شأنه أن يمكّنه من نشر كتابه الثاني، إلا أنه تم رفضه. ولهذا السبب، أخذ قرضًا بقيمة 27 ألف ليرة تركية وباع سيارته مقابل 22 ألف ليرة تركية من أجل أن يجمع مبلغًا كافيًا لنشر الكتاب.

"كيف تستطيع أن تكتب كتابًا؟"

يقول صدر الدين: "بينما كنت أكتب كتابي الأول، سألني الناس كيف يمكنني كتابة كتاب، إن الأساتذة والمتعلمون والأكاديميون هم من يقومون بالكتابة، لقد أخبروني "لن يقرأ أحدٌ كتابك". الأمر الذي أجبرني على التوقف عن الكتابة بينما كنت أكتب كتابي الأول. كنتُ على وشك التخلي عن الأمر برمّته، إلا أن فريق التنقيب والحفر كان دائمًا ما يذكّرني أن قوة العقل هي التي تكتب الكتب وليست الشهاداتُ الجامعية".

ويضيف: "في قريتي، السكان المحليون غير منفتحين على التعليم خاصة للفتيات، رأيت هذا الأمر مع أقاربي الأكبر سنًّا، وأعتقد أنه لا زال مستمرًا حتى الآن. لقد قمتُ بإرسال ابنتي وابني إلى المدرسة بعد أن قابلتُ الأشخاص المتعلمين في تشاتال هويوك، وعلى الرغم من أنني حزينٌ لأنني لم أحظى بتعليمٍ مدرسي وجامعي، لكنني فخورٌ بأبنائي، فابنتي اليوم هي مدرّسةٌ للتاريخ وابني يعمل مستشارًا ماليًا، إنهم مصدر فخري وسعادتي".

أما صدرُ الدين، فبعد أن تقاعد من عمله كحارس، يدير اليوم بقالةً ومقهى مقابل تشاتال هويوك.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!