علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

لم يتصور فرعون موسى أن الطفل الرضيع الذي تعلقت به زوجته ناجيا من كل أطفال مصر سيكون هو النبي الذي سيكون سببا في انهيار دولته وعصره بعدما وصل إلى اعتبار ذاته إله مصر قائلا “أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي”، واعتبر نفسه ربّ المصريين الأعلى لتكون عاقبته أن يغرق هو وجنوده في البحر. والواقع أن قصة سيدنا موسى عليه السلام مثل قصة سيدنا يوسف قد صُوِّرت في القرآن الكريم تصويرا دراميا وفنيا كأحسن ما تصوَّر القصص “نحن نقص عليك أحسن القصص”.

مثل كثير من قصص القرآن الكريم تحمل هذه القصص إغراء للمبدعين في الدراما السينمائية والتليفزيونية لما فيها من عبرة للبشر. وتناولت العديد من الأفلام السينمائية تلك القصص عالميا وعربيا، وهناك أكثر من عمل درامي تناول القصة ذاتها كعمل تاريخي أي محاكاة تاريخية مثل المسلسل التليفزيوني عن سيدنا يوسف بنفس العنوان وهو دراما سورية، وهناك فيلم المهاجر ليوسف شاهين، وهناك أيضا سلسلة لا إله إلا الله التي أنتجها التليفزيون المصري في منتصف الثمانينيات وتحكي قصص الأنبياء، أما الأفلام والمسلسلات التي تستلهم القصة وتضعها في إطار عصري وجديد فهي أيضا متعددة في المجالين السينمائي والتليفزيوني.

العمل الدرامي التركي “ملحمة الشجرة السوداء” الذي انتهى عرضه الأسبوع الماضي، ودارت أحداثه في 30 حلقة درامية أي ما يجاوز 75 ساعة تليفزيونية، واستمر موسمين يستوحي قصة سيدنا موسى وفرعون في إطار عصري.

فالعمل تقع أحداثه بين عامَي 1975 و2000 من خلال شخصية جلال الحراني (نسبة إلى حران إحدى إقطاعيات تركيا) الذي ينتقل من حران إلى قرية كارا أغاتش (الشجرة السوداء).

الشجرة السوداء شجرة ضخمة يعتبرها أهل القرية مباركة وحافظة لأسرار الجميع، وبجوارها أو في حماها يعترف الجميع بأسرارهم وخطاياهم. يجيء جلال إلى القرية حاملا أسرارا كبيرة لا يعرفها أحد سوى عجوز القرية التي تحمل كل أسرار البشر فيها، وفي ذات الوقت فإنها عالمة أعشاب ومعالجة القرية، يصبح جلال الحراني سيدا من أسياد القرية بالقوة ويكون ما يشبه العصابة، ويحاول أن يتخلص من كل أقرانه ليصبح السيد الوحيد.

أثارني في بداية حلقاته الشكل الأسطوري الملحمي للعمل، وهذا الشكل المبهر للأعمال الدرامية، وتصورت في البداية أني أمام حكاية من حكايات الأساطير، ثم جذبني ارتداء أغلب أبناء القرية الكوفية الفلسطينية والدبكة الشامية، وانتقل إحساسي مع الحلقات الأولى إلى عالم الخيال وأحلام الأبطال التي تشبه أحلام العمل الدرامي المصري (حديث الصباح والمساء) لنجيب محفوظ، ومحسن زايد، وفكرة التقاء الأرواح في الحلم، وهو ما يعكس الصفاء الروحي للأبطال، ثم الصراع القصير بين جلال الحران والسيد عثمان.

عثمان نموذج للسيد العادل (الفتى العادل) وليس الدكتاتور العادل، وهو الشخصية المقابلة لجلال حيث لا طمع ولا قتل ولا عصابة تكون أداته لقهر الفلاحين ومن يمتلكون الأرض في القرية، وبسرعة يقتل جلال السيد عثمان ويطارد زوجته الحامل بطفل ليقتل الجنين، وهكذا يستحوذ جلال على أرض عثمان، وينهي مشروعه مع الفلاحين بتوصيل المياه إلى أراضيهم.

يُقتل السيد عثمان ويتم تشتيت رفاقه ويخرجون إلى قرية أخرى، وبينما كانت زوجة جلال حاملا بابنة رابعة له، هدد زوجته بأنها إذا ولدت أنثى فسيتخلص من المولودة ومن بناته الثلاث، ولأن السيدة باشا معالجة القرية والمولدة تعرف أن الجنين بنتا فإنها ستعقد صفقة مع زوجة عثمان لتبادل المواليد.

يقوم جلال وزوجته بتربية ابن السيد عثمان (المغدور به) بينما تقوم زوجة عثمان بالهروب بابنة السيد جلال وتعاني كثيرا في طريق الهروب وتربيتها، هكذا يصبح عمر بن عثمان فتى جلال المدلل، وفي نفس الوقت يحمل صفات عثمان في بحثه عن العدل وحبه لأهل القرية ودفاعه عنهم، حتى أثناء طفولته يعاند كثيرا جلال ليكون صداقات مع أطفال القرية البسطاء، بينما تكافح زوجة عثمان في تربية ابنة جلال حتى تصبح مهندسة ري وسدود وتعود الابنة إلى قرية أبيها وهي تحمل اسم عثمان، لتعيد حلمه في بناء السد وفي ذات الوقت لتقف في مواجهة جلال (أبيها الحقيقي).

يتلقى عمر بن جلال وسلطان بنت عثمان هكذا تبدأ القصة لأن هناك صلة روحية بين الاثنين، ويجد جلال مواجهة شديدة من سلطان التي تحارب من أجل بناء السد، وللالتقاء الروحي مع عمر خاصة أنهما التقيا في الأحلام قبل لقاء الواقع، ويقف عمر بن عثمان الحقيقي مع مشروعها.

تنفجر المواقف عندما يكتشف أحد السادة الكبار ما حدث ليلة ميلاد عمر وسلطان ولإعجابه بعمر يعقد صفقة مع جلال لتزويج عمر بابنته، هكذا يتكاتف السادة للخلاص من ابنة السيد عثمان ومشروع السد، لكن عمر يحاول أن يقف بجوارها، يجبر جلال عمر على الزواج من ابنة السيد الأخير، بعدما يدبر مذبحة لعائلة الرجل ليستولي على أملاكه، وهكذا يصبح جلال السيد الأوحد في البلدة.

تنفجر الأحداث أكثر عندما يكتشف جلال أن عمر الذي رباه وهو معتقد أنه ابنه هو ابن السيد عثمان، وأن سلطان ابنته الرابعة، وتتحول علاقته بعمر إلى العداء المشمول بعلاقة سابقة هي الأبوة، تبقى العلاقة حاجزا بينهما كثيرا لكن جلال المغتصب والسارق لا يتوقف عن جرائمه، فهو لا يريد لأحد أن يشاركه مملكته، وفي سبيل ذلك يضحي بالجميع أبنائه، وزوجته، وحتى رجاله الذين شاركوا في جرائمه.

ويظهر شقيق جلال الأكبر الذي اختطف حبيبته، وتزوجها عنوة، وحرق قريته، وهرب، وترك زوجته الأولى حاملا، وزج بأخيه في السجن، كل هذا الجرائم تتكشف تباعا، وبين إعجابه بابنته سلطان القوية الشجاعة وصراعه مع عمر الذي يسعى لرد ميراث والده، وتحقيق حلمه بالعدل، تتوالى الأحداث ليكتشف جلال في النهاية أن الابن الذي عاش يحلم به هو أحد رجال عصابته فيرفضه.

هذا الشاب الذي عاش عمره من أجل لحظة عطف منه كتابع وعصا له يكتشف أنه ابن جلال، يطالب الشاب بالأبوة فيرفضه جلال ويهينه، فيقوم بحرق قصر جلال بكل ما فيه جلال وأولاده وزوجته التي كانت على شفا ولادة ذكر هذه المرة.

في مشهد درامي قريب من نهاية فيلم “شيء من الخوف” يحترق قصر جلال الحراني، وبداخله جلال، وينقذ عمر بن السيد عثمان أخواته بنات جلال وأمه التي تولت تربيته زوجة جلال، وبينما يحاول جلال قتل عمر وسلطان يتهاوى قصره فوق رأسه فيموت ومعه ابنه الحقيقي من زوجته الأولى وقد أطلق عليه الرصاص، وفي تلك اللحظة يولد طفل جديد يرعاه عمر وسلطان وشقيقاتها وأمها، ليبدأ عصر عمر الذي يعيد للقرية العدل والأمان.

عمل درامي مميز ضمن مجموعة أعمال درامية كثيرة تعرض في الموسم الدرامي التركي الجاري، ولعل أهمها الثلاثية التاريخية المؤسس عثمان، وسلطان الفتوحات محمد الفاتح، وصلاح الدين فاتح القدس، ومن الأعمال الاجتماعية الزهور الحمراء، والأعمال الجديدة عائلة شاكر باشا عن نهايات عصر الخلافة، ودين الروح، وكان يا ما كان إسطنبول، وحكاية وطن عن المقاومة الليبية ومشاركة العثمانيين فيها، وأكثر من سبعة أعمال جديدة بجوار الأعمال التي تدخل المواسم الدرامية الجديدة.

ملحمة الشجرة السوداء كعادة الأعمال التركية تتميز بالمناخ الدرامي الجديد، وتجمع بين الروح الإنسانية الصوفية والصراع الدرامي المشوق، واللمحة الدينية في كونها مستوحاة من قصة سيدنا موسى في قصر فرعون، وكعادة الدراما التركية في سنواتها العشر الأخيرة تتطور الكتابة بشكل مبهج، وترتفع التقنيات الفنية، وتتعدد المواهب التشخيصية، فالممثلون يتم تسكينهم بشكل رائع في الأدوار، ويجيدون في التمثيل من الأدوار الصغيرة إلى أبطال العمل، وهذه ميزة في أغلب الأعمال مع ضخامة عدد الممثلين في كل الأعمال، لتستمر الدراما التليفزيونية التركية في تألقها وحصد الكثير من العوائد لانتشارها عربيا وإسلاميا.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس