د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
بتاريخ 28 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1938 نشرت صحيفة "فلسطين" حوارًا مع أحد المثقّفين الأتراك لم يُفصح عن اسمه بسبب التّضييق الذي كان سائدًا في تركيا في تلك الفترة على حرّية الرأي والتّعبير. وقد عبّر هذا المثقّف عن تعاطفه الكبير مع القضيّة الفلسطينيّة وعن ألمه لابتعاد تركيا عن العَرب وقطع صلتها بهم. ورغم أنّ الحُكومة التّركية في تلك الفترة كانت تحارب بلا هوادة كلّ ما يمتّ للشّرق وللإسلام بصلة، في الفكر والثّقافة والزّي واللّغة وكل شيء تقريباً، وكانت القناعة السّائدة آنذاك لدى رجال الدّولة التركية أن النّهضة لا تحصل إلاّ إذا تخلّت تركيا عن هويتها بشكل كامل وطبّقت العلمانيّة الصّارمة، رغم كلّ ذلك فإنّ هذا المثقّف كان على يقين من أنّه سوف يأتي اليوم الذي ترجع فيه تركيا إلى الشّرق وتتصالح مع هويتها ومع العرب.
نُشر هذا الحوار قبل وفاة مصطفى كمال أتَاتورك (ولد 19 أيار/ مايو سنة 1881 وتوفي في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1938م) بنحو 12 يومًا، وعندما سُئل هذا المثقّف من قبل مراسل الصّحيفة في بيروت: "أراك نهتمّ بقضيّة فلسطين وتعطف عليها وأنت تركيّ"؟ أجابه بلا تردّد: "ليس هذا مُستغربُا منّي أو من أيّ رجلٍ تركيّ، فإنّ الرّوابط التي تربطنا بالعرب وفلسطين سوف لا تزول من قُلوبنا". ويرى هذا المثقّف "المجهول" أنّ ما يحصل في تركيا إنّما هو وضعيّة مؤقّتة، وعندما يحين الوقت المناسب سوف يتغيّر كلّ شيء ويظهر وجه تركيا الحقيقيّ و"يُخطئ من يظنّ أنّ تُركيا قطعت علاقاتها مع العرب والإسلام، ويخطئ أيضًا من يظنّ أنّ سُكوت تركيا ناشئٌ عن قبولها بالحالة الحاضرة، ومتى جاء دور العمل ستسمعُ أنّ تركيا المسلمة لم تكن ساكتةً أو أنّها لا تُريد العمل من أجل فلسطين والإسلام".
ويؤكّد هذا المثقّف أنّ الشّعب التّركي الذي يدين لأتاتورك كزعيم غير راض أبدًا عن وضعيّة الدّولة اللاّدينيّة، فتركيا دولة مسلمة "متعصّبة لدينها، ولا يمكن لأيّة ديكتاتوريّة مهما عظُمت أو طال أمدُها أن تؤثّر على هذه العقيدة الرّاسخة، وتركيا يهمّها كثيرًا أمر سوريا وفلسطين وأعتقد أنّ دور اللاّدينية في تركيا سينتهي قريبًا وترى عندئذ ماذا سيكون موقف تركيا".
من المهمّ الإشارة في هذا الحَديث الصّحفي إلى ثلاثة أمور أساسيّة، فقد كانت للمتحدّث ثقة عالية بأنّه سوف يأتي اليوم الذي تتصالح فيه تركيا مع هويّتها الإسلاميّة أولاً، وتعود فيه العلاقات الأخويّة مع جيرانها العرب، وتهتم فيه تركيا كذلك بالقضيّة المحوريّة للعرب والمسلمين وهي القضية الفلسطينيّة. واليوم، وبعد مرور نحو ثمانين عامًا على تلك التّصريحات فإنّ الواقع الذي نعيشه يؤكد تحقّق تلك القناعات وتلك "التنبّؤات". فتركيا، ومنذ نحو عقدين من الزّمن حثّت الخطى باتجاه "الشّرق"، بما يمثله الشّرق من ثقافة وتراث ودين ولغة.
وبعد أن كان يُضرب بتركيا المثل في التّعصب للعلمانيّة لمدة عقود من الزّمن أصبحت اليوم مثالاً لدى المعجبين بها في الانتصار لقضايا العالم الإسلامي وللقضيّة الفلسطينيّة، وزادت تعاملاتها مع البلدان العربيّة في جميع المجالات السياسية والاقتصاديّة والثقافيّة، بل لقد أصبحت متّهمة من قبل خصومها بـ"التعصّب الدّيني". ولا نُجانب الصّواب إذا قلنا إنّها اليوم أكثر بلاد المسلمين انتصارًا للقضيّة الفلسطينية ودعما للشّعب الفلسطيني مادّيًّا ومعنويًّا، ساعدها في ذلك ما تشهده من نهضة اقتصاديّة، جعل صوتها عاليًا في المحافل الدّولية.
كان هذا المثقّف يُدرك من منطلق معرفته بطبيعة المجتمع التّركي ورسوخ الإسلام في التربة التّركية أنه لن تستطيع الدّيكتاتوريّة "مهما عظُمت أو طال أمدُها أن تؤثّر على هذه العقيدة الرّاسخة"، ولن تستطيع سلخه سلخا كاملاً عن أصوله وجذوره التي تغذى منها لمئات السّنين. لقد ظلت تركيا "الرّسميّة" منكرةً وقتا طويلاً لأصولها وهويتها، وظلّت "هاربةً" من حقيقتها الشّرقيّة، وظنّت لوقت طويل أن التقدم لا يتحقّق إلا بالتّخلي عن هويتها ودينها وشرقيّتها واتّباع الغرب خطوةً بخطةٍ، لكنّ تركيا أخيرًا استفاقت من هذا "الوَهم" الذي عاشت عليه طويلاً، وحقّقت تقدّمها المنشود بعد أن جمعت بين الأخذ عن الغَرب ما هو مفيد والعَودة إلى شرقيّتها عودةً واعيةً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس