جمال الهواري - خاص ترك برس
توجد عادة متوارثة عند العرب منذ عصر الجاهلية وهي "إجارة المستجير" بمعنى حمايته وعصمة دمه من أي خطر يتهدده، وكان الرجل في الجاهلية يدخل على الرجل ويقول أجرني فإن قال له أجرتك فقد منعه ولو كان خصمه من ذوي قرابة مُجِيره، وجاء الإسلام ليعزز هذا المفهوم ويقويه ويغلفه بقدسية الأمر الرباني بإغاثة الملهوف والتفريج عن من ألم به كرب أو أصابته مصيبة ومساعدة المحتاج والحفاظ على حياته وحفظ كرامته وعرضه وشرفه، وحتى الآن هذا العُرْف ما زال متواجدًا بين القبائل العربية في الخليج والعراق والأردن وغيرها.
(داخل عليك يا الله) تلك العبارة المقتضبة المليئة باليأس الممزوج بالخوف والرهبة والأمل في آنٍ واحد ونطق بها شيخ سوري بلغ من الكبر عتيا عالق على الحدود السورية الأردنية، هو وعشرات الآلاف غيره من المدنيين الفارين من آتون الحرب المشتعلة في سوريا والقصف الشرس والعشوائي وبمختلف أنواع الأسلحة على الجنوب السوري من قِبَل ميليشيات الأسد وحلفاءه من الروس والإيرانيين.
(داخل عليك يا الله) قالها المسن السوري بعد أن تقطعت به السبل وتمت محاصرته بين نار مسلطة وأبواب موصدة يطلق عليها الحدود مزقت أشلاء العرب والمسلمين، حدود صنعها "سايكس_بيكو" واستماتت للدفاع عنها الشعوب العربية حكامًا ومحكومين، الحكام خدمًة لانتهازيتهم وتآمرهم وتنفيذًا لأوامر وإملاءات من الصهاينة والغرب للبقاء على عروشهم ومن حاول الخروج من تلك التبعية لتحول في لحظة إلى حاكم مستبد ديكتاتور وجب التخلص منه "تلك هي طريقة الغرب المفضلة للتخلص من أتباعه حال انتفاء الحاجة إليهم"، والشعوب ضحايا تزييف الوعي وتخريب منظومة التعليم والثقافة وتغليب النزعة القومية المتعصبة لتلك الحدود والتي دأب حكام المنطقة على تغذيتها وإثارتها وتضخيمها وضخها في القلوب قبل العقول، ونتج عنها تقسيم شعوب المنطقة شيعًا وقبائل ليتنازعوا ويتقاتلوا بدلًا من أن يتعارفوا ويتقاربوا، لتفرقهم تلك الحدود المصطنعة بدلًا من أن تجمعهم حدود الإسلام والإنسانية والمصير الواحد.
تابع الجميع حول العالم باهتمام ما جرى في تايلاند حين علق مجموعة من الأطفال من لاعبي أحد فرق كرة القدم تتراوح أعمارهم بين 11و17 عام مع مدربهم الشاب داخل أحد كهوف "ثام ليونج" بمنطقة "شيانج راي" شمال تايلاند أثناء قيامهم بنزهة هناك وحاصرتهم الأمطار داخل الكهف لمدة 10 أيام قبل أن يعثر عليهم فريق غطس بريطاني محترف، وما إن تم إعلان الخبر حتى ضجت وسائل الإعلام العالمية الكبرى به وتشكلت مجموعات عمل ووضعت الخطط لإنقاذهم وشارك فيها 50 غواصًا تايلانديًا و40 غواصًا أجنبيًا ومئات آخرين بين طواقم طبية وإغاثية ولوجيستية وحبس العالم أجمع أنفاسه 17 يومًا متواصلة وهو يتابع مجريات عملية الإنقاذ حتى تم إنقاذهم جميعًا على مدى 3 أيام من الأحد إلى الثلاثاء الماضي ولقي أحد الغواصين من تايلاند حتفه أثناء العملية.
شعرت بالسعادة لإنقاذهم مثلما شعر بها كل شخص لديه ذرة من الإنسانية، لكنها سعادة امتزجت بالأسى والقهر في الوقت ذاته لأنه وفي بقعة أخرى ضمن نفس القارة في سوريا يتم ذبح الشعب السوري بلا رحمة وتهجيره بلا هوادة وتمزيقه بلا أي وخز للضمير منذ عام 2011 وحتى لحظة كتابة هذه السطور، الغرب والشرق نفسه الذي تبارت قنواته في تغطية عملية إنقاذ أطفال الكهف التايلاندي هو نفسه التي تبارت قنواته للترويج لما يسمى حل سياسي للحرب في سوريا دون أي نتائج تذكر على مدى سنوات تغيرت فيها خارطة سوريا الجغرافية والديمغرافية والسياسية وحتى الإنسانية.
كشف الفرق الشاسع في تعامل الشرق والغرب مع أزمات وكوارث الدول العربية والإسلامية، أنه يتعامل هناك في تايلاند وما شابهها للترويج لإنسانيته المزعومة والترويج في مناطق الصراع في الشرق الأوسط وبشكل خاص "دول الربيع العربي" لأسلحته الفتاكة والتي حولت شعوب ودول المنطقة إلى حقل تجارب يتبارى فيها الجميع لإظهار قدرات ترسانته العسكرية وكما يقول المثل الشعبي الدارج "على عينك يا تاجر"، فأنت ستشتري أسلحة مجربة على البشر والزرع والحجر، ومن نجا من تلك الحرب الشعواء تقاذفتهم أمواج البحر وتشعبت به المسالك وتقطعت بهم السبل وقسمتهم وفرقتهم دول الغرب وحدوده مرة أخرى ليصبحوا لاجئين لدي الغرب نفسه الذي تقتلهم أسلحته ويمنح طاغية وسفاح سوريا ما يلزمه للبقاء في سدة الحكم كمختار ضيعة أو بالأحرى خيال مآتة لا حول له ولا قوة ولا يملك من أمره شيئًا، لينهبوا ويتقاسموا باسمه خيرات سوريا ما فوق الأرض منها وما تحتها.
وحتى هؤلاء اللاجئون أنفسهم حسن النية سطحي التفكير من يعتقد أن الغرب قد استضافهم من منطلق إنساني بحت ورأفة منه واحترامًا لحقوق الإنسان ومساعدة الشعوب المقهورة كما يروج إعلامه وتوابعه، بل المكاسب الإقتصادية والسياسية هي المحرك الأول والدافع الرئيسي لهذا، فالدول الغربية بحاجة للمهاجرين لتجديد دمائها وشيخوختها وللعمالة لتقوية اقتصاداتها ولتستمر ماكينة الإنتاج بالدوران وبأعداد وتخصصات محددة سلفًا ثم إغلاق الباب بعد استيفاء العدد المطلوب منها، ولتبقى دول العالم الثالث كما يطلق عليه الغرب مجرد أسواق لبيع منتجاته ومصدر للطاقة والثروات التي تخدم رفاهية شعوبه، ولفهم تلك النقطة وتوضيحها فقد ذكر تقرير صادر عن مركز "Pew Research Center" للأبحاث والدراسات في العاصمة الأمريكية "واشنطن" تم نشره على الموقع الرسمي للمركز في يناير/كانون ثانٍ 2018 أن عدد اللاجئين السوريين قد بلغ 13 مليون سوري منذ اشتعال الصراع قبل نحو سبعة أعوام، وهو ما يمثل قرابة 60% من عدد السكان قبل الحرب، وهي نسبة نزوح لم تشهدها دولة من قبل خلال العقود الأخيرة، بحسب التقرير، منهم حوالي 49% قد نزحوا داخليًا، لكن هذه النسبة تغيرت خلال السنوات الأخيرة مع عودة مئات الآلاف إلى ديارهم وظهور نازحين جدد، ويقول المركز إن نحو 700 ألف سوري نزحوا داخليًا في النصف الأول من 2017 بسبب الصراع المستمر، و41% منهم في 4 دول تركيا (3.4 ملايين) ولبنان (مليون) والأردن (660 ألفا) والعراق (250 ألف لاجئ)، بالإضافة إلى بضع مئات من الآلاف موزعين في دول شمال أفريقيا كمصر والمغرب والجزائر، لك أن تتخيل أنه بعد كل تلك البروباغندا الإعلامية الغربية لم تستقبل دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة وأمريكا وكندا إلا ما نسبته 10% من أعداد اللاجئين بعد أن تم فحص ملفاتهم وتقييمهم بكل دقة وسمح بالبقاء فقط لمن تحتاج إليه تلك الدول، وتم رفض طلبات الأخرين والدفع بهم لرحيلهم عكسيًا إلى الدول التي دخلوا منها مثل تركيا أو اليونان والكثيرون منهم رجع إلى سوريا نتيجة ما لاقوه من معاناة وتمييز عنصري وتم رصد هذا في فيلم وثائقي بثته شبكة "BBC" البريطانية في شهر مارس/آذار 2018 تحت عنوان "الهروب من أوروبا" يكشف وبوضوح ما فعلته أوروبا وخصوصًا ألمانيا للتخلص من اللاجئين الذين يكلفون الخزينة الألمانية نفقات لا يستحقونها كما تروج بعض القوى السياسية الألمانية وتم التخلص منهم ولتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم.
وفي نفس الوقت ما يحدث من مجازر وأحداث مروعة في سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن وغيرها من دول المنطقة بات بمثابة جرس الإنذار لحكام المنطقة وشعوبها في آن واحد، للحكام إن أنت حاولت الخروج من تحت مظلتنا وخالفت ما يملى عليك فها أنت ذا قد رأيت ما يمكننا فعله من صدام حسين إلى القذافي إلى علي عبدالله صالح، وللشعوب ها قد تابعتم ورأيتكم بأنفسكم ما يحدث للشعوب التي فكرت مجرد التفكير في المطالبة بحريتها وسيادتها على أرضها وامتلاك قرارها والسعي نحو بناء مجتمعاتها والحد الأدني من الحياة الكريمة.
ختامًا،
ما أوصل الشعوب العربية إلى تلك الحالة هم حكام كانتونات "سايكس_بيكو" منذ قيام ما يسمى زورًا وبهتانًا بالثورة العربية الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من تقسيم الشام والحجاز والعراق، ثم موجات التحرر من الاستعمار عقب الحرب العالمية الثانية ورحيل المستعمر المباشر مخلفًا وراءه أتباع وجماعات لهم نفس منهجيته ويدينون له بالولاء ويتفانون في خدمته حتى يومنا هذا وما تلاه من زراعة الكيان الصهيوني كالخنجر في خاصرة المنطقة ليبقيها بالتعاون مع بعض دول المنطقة سرًا وعلانية في حالة تشبه الموت الإكلينيكي والتجميد ليتم إنعاشها والإقتطاع من ثرواتها ومقدراتها متى دعت الحاجة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس