جمال سلطان - المصريون
يبدو ـ حتى الآن ـ أن الحرب التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تركيا بسبب أزمة القس الأمريكي السجين "أندرو برونسون" لم تحقق المراد منها، بل يمكن القول إن الجولة الأولى خسرها ترامب بالفعل، فالرهان على تدمير الليرة التركية لم يكن دقيقا، وبعد تراجع مفاجئ وسريع في سعر العملة التركية خلال يومين من الخوف والهلع بعد قرارات ترامب العقابية، بدأ التراجع يتوقف، ثم بدأت الليرة تستعيد جزءا كبيرا من خسارتها، فبعد أن وصلت إلى حدود السبعة ليرات للدولار الواحد قبل أول أمس، ها هي اليوم تعود إلى حدود الستة ليرات وتتجه كسور الخمسة خلال يومين فقط، يأتي هذا على الرغم من التهديدات التي أطلقها نائب الرئيس الأمريكي "بنس" وعدد من أركان إدارته، والتي تتصف بالتشدد واللعب على وتر مشاعر المحافظين الجدد المتشددين دينيا، والذين ينتمي إليهم القس الأمريكي السجين في تركيا.
عدة عوام شكلت مجتمعة أسباب صمود العملة التركية أمام أعنف حملة اقتصادية تتعرض لها، وهي حملة صدرت بشكل علني من أكبر ديناصور مالي في العالم وربما في التاريخ، الولايات المتحدة الأمريكية، يأتي في مقدمتها روح التحدي التي مثلها موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فلم يهتز أبدا وعملته تترنح بقسوة مفاجئة، وقال إنهم سيخسرون الحرب، وانتشر "هاشتاج" على مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا يحمل هذا المعنى "سننتصر"، وقال أردوغان إن الذين فشلوا في تحقيق مآربهم بالانقلاب العسكري لن يفلحوا بالانقلاب الاقتصادي، وحقق موقف الرئيس التركي استنفارا لمشاعر الكرامة الوطنية في تركيا، فصدرت بيانات من جميع الأحزاب المعارضة والشخصيات الرئيسية تعلن تأييدها للموقف الرسمي ودعمها للرئيس أردوغان، وتناسى الجميع مشاعر المرارة التي خرجوا بها من الانتخابات الأخيرة، وتشعر أن تركيا كانت على قلب رجل واحد، وبدون شك، فقد كانت التغريدة "الاستعراضية" التي أعلن فيها "ترامب" حربه الاقتصادية على تركيا، كانت سببا في دعم موقف الرئيس التركي، لأنه لم يعد بحاجة إلى التأكيد على "مؤامرة" تتعرض لها بلاده ولا رغبة في الإذلال ولا يحتاج لإثبات تعرض بلاده لحرب اقتصادية مهينة بقصد كسر إرادتها وإذلالها، كل ذلك أثبته "ترامب" بغشومية معتادة منه عندما أطلق تغريدته التي يشير فيها إلى حزمة إجراءات "لتأديب" تركيا.
من الأسباب المهمة للغاية في خسارة أمريكا جولتها الأولى مع تركيا، هي مشاعر القلق التي انتابت دول الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن تركيا ما زالت لم تدخل ضمن الاتحاد، إلا أن الأزمة كشفت عن عمق التداخل بين الاقتصاد التركي والاقتصاد الأوروبي، لأن الاقتصاد التركي ليس اقتصادا ريعيا ولا أحادي الرافد، وليس اقتصادا هشا، ولا ورقيا، وإنما هو بنية اقتصادية قوية في مختلف المجالات: الصناعة والزراعية والتقنية والتجارية والسياحية والبنكية، لم يكن أحد يعلم ـ على سبيل المثال ـ أن ألمانيا تملك ستة آلاف وخمسمائة مصنع في تركيا، ألمانيا وحدها، فما بالك بما تملكه الدولة التركية، وما يملكه الآخرون، أيضا اتضح أن الاقتصاد التركي متشابك ماليا مع عمالقة المال في البنوك الأوروبية الكبيرة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وعندما تعرضت الليرة التركية للأزمة المفاجئة وقع اضطراب حقيقي كبير في أسواق المال الأوروبية، وهبطت الأسهم بشكل حاد، بل هبطت أسعار العملات الأوروبية الرئيسية: اليورو والاسترليني، وهذا ما جعل الدفاع عن تركيا واقتصادها يأتي من خصومها السياسيين في ألمانيا وإيطاليا وغيرهما، هذا الزلزال يكشف عن قوة الاقتصاد التركي وامتداداته، ويلاحظ أن الهزة التي حدثت بسبب التلاعب في عملته لم تحدث عندما حدث الانهيار في العملة الإيرانية مثلا، بل لم يشعر أحد عندما وقع الانهيار في الروبل الروسي نفسه، وهذا ما جعل للأزمة بعدا إيجابيا على المدى البعيد لصالح سمعة تركيا واقتصادها.
من الأسباب التي ساهمت أيضا في خسارة أمريكا للجولة الأولى من الحرب الاقتصادية مع تركيا الروح العالية التي أبداها الشعب التركي تجاه حكومته وتجاه عملة بلده، فلم يحدث حالة من الهلع نحو "الدولرة" وكشفت السلطات المالية التركية أن الودائع الموجوة بالبنوك بالليرة لم تتغير تقريبا إلى الدولار إلا بشكل هامشي وضئيل، وهذا ما يعني الاستجابة لدعوة أردوغان لشعبه أن يخوض معركته بنفسه، وقد ساعد تدخل البنك المركزي بضخ قرابة عشرة مليارات من الدولارات في السوق إلى تهدئة المخاوف، فضلا عن إجراءات أخرى منها التحذير الذي أطلقه أردوغان لحيتان العملة الذين احترفوا اللعبة مستغلين الحرب التي أعلنها ترامب على تركيا وقوت شعبها، ويبدو أن رسالته وصلت هنا أيضا.
المتحدثة باسم البيت الأبيض "سارة ساندرز" أعلنت اليوم أن الرئيس "ترامب" يشعر بإحباط شديد بسبب عدم الإفراج عن القس "برونسون"، هي لم تفسر سبب الإحباط وهو أن تهديداته لم تفلح في "تركيع" تركيا، والمؤكد أن إحباطه تعاظم عصر اليوم بعد أن رفضت محكمة تركية التماسا تقدم به محامو القس لتخفيف الإقامة الجبرية ورفع اسمه من قائمة الممنوعين من السفر.
هل تكون الجولة الأولى هي الأخيرة في تلك المواجهة، ويبحث حلفاء الأمس عن تسوية لائقة للمواجهة، أم أنها تكون جولة أولى تعقبها جولات أخرى من المواجهات، لا أحد يملك إجابة اليوم، خاصة وأن أحدا لا يمكنه التنبؤ بأفعال ترامب، فهو شخص يمكن أن يقلق من نومه في منتصف الليل فيغرد في تويتر معلنا الحرب في أي بلد، غير أن التحذيرات بدأت تتزايد في الصحافة الأمريكية عن خطورة الإيغال في الضغط على تركيا، الحليف الاستراتيجي لحلف الأطلسي، وحارس البوابة الجنوبية الشرقية لأوروبا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس