هيثم الكحيلي - نون بوست
نشر التركي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، فتح الله غولن، والذي يخوض صراعًا مع حزب العدالة والتنمية، مقالاً على صفحات نيويورك تايمز عنونه بـ "الديمقراطية المتآكلة في تركيا" واجتهد من خلاله في رسم أكثر الصور سوداوية عن المشهد السياسي والديمقراطي في تركيا وعن ما وصفه غولن بشمولية حزب العدالة والتنمية الذي دعمه وسانده خلال السنوات الثمانية الأولى من حكمه.
ورغم أن الصحف التابعة لجماعة فتح الله غولن، وعلى رأسها صحيفة زمان الأكثر مبيعًا في تركيا، وكذلك الفضائيات التابعة للجماعة وعلى رأسها فضائية سمانيولو، تنشر وتبث بشكل يومي مقالات وتقارير لا تترك خطأ للحكومة إلا وذكرته ولا حسنًا إلا وقبحته، وكذلك صحف المعارضة "اليسارية" وبدرجة أقل المعارضة العلمانية؛ لم يجد فتح الله غولن حرجًا في أن يقول إن انتصارات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات جاءت بفضل "تملق الإعلام"، مشيرًا بذلك إلى الصحف والقنوات الموالية للحزب أو الداعمة له والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُقَارن تأثيرها الإعلامي بباقي التجمعات الإعلامية الضخمة المعادية للحكومة في تركيا أو المحايدة.
وفي إطار استدلاله على شمولية حكومة حزب العدالة والتنمية واستبدادها، ادّعى فتح الله غولن أن الحكومة التركية تقمع معارضيها، متجاهلاً أن المعارضة السياسية في تركيا لم يحدث أبدًا في تاريخ الجمهورية أن حصلت على حقوقها السياسية في المعارضة كما هو واقع اليوم، حيث ألغت حكومة العدالة والتنمية قانون حل الأحزاب الذي كان مسلطًا على رقاب السياسيين وأعطت حقوقًا لم يعرفها المشهد السياسي في تركيا من قبل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى المستوى السياسي أعلنت الحكومة التركية في السنة الماضية عن حزمة إصلاحات سياسية واسعة كانت أهم بنودها جعل الأحزاب السياسية عصية عن الحل، وشملت زيادة المساعدات المقدمة من قبل الدولة للأحزاب السياسية بغاية دعم الأحزاب الجديدة وصغيرة الحجم والتي كانت في السابق محرومة من هذا الدعم، بالإضافة إلى إزالة المادة 43 من قانون الأحزاب التركي التي تمنع الأحزاب التركية من استخدام اللغات غير التركية في الحملات الانتخابية والدعاية الحزبية.
وإن لم يذكر فتح الله غولن مثالاً واحدًا عن قمع المعارضة السياسية في تركيا، فإنه استدل على ادّعائه بقمع الدولة للمعارضة عبر الحديث عن حملة الإيقافات التي نفذتها النيابة العامة في مدينة إسطنبول مؤخرًا ضد أفراد عاملين في مؤسستين إعلاميتين تتبعان لجماعة فتح الله غولن، متجاهلاً أن هؤلاء الموقوفين متهمون رسميًا من قبل القضاء التركي بـ "إنشاء تنظيم عصابي مسلح، وإدارته، والانتساب إليه"، ومتجاهلاً أن أي من فضائيات جماعته وصحفها لم تغلق ولم تجبر على تغيير سياستها التحريرية ومازالت تبث كل ما تنتجه من مواد معادية للحكومة ولحزب العدالة والتنمية.
وعوضًا عن الاتيان بأدلة على وجود قمع للمعارضة السياسية في تركيا، لجأ فتح الله غولن إلى الاستدلال على قمع الحكومة لمعارضيها عبر الحديث عن الإقالات التي تعرض لها عدد من المحسوبين على جماعة فتح الله غولن من بعض المناصب العليا في أجهزة الدولة، محاولا إخفاء ثلاث حقائق:
الأولى جاءت على لسان القائد السابق للجيش التركي إلكر باشبوغ، الذي أقالته حكومة العدالة والتنمية، والذي قال مؤخرًا إنه قدم لرجب طيب أردوغان قائمة بأسماء أفراد تابعين لجماعة غولن تغلغلوا داخل أجهزة الدولة وبدأوا يتحركون وفق أوامر تأتيهم من خارج هذه الأجهزة، مشيرًا إلى أن أردوغان رفض اتخاذ قرارات حيال هؤلاء.
والثانية هي أن الإقالات التي لم تنتج عن طلب الجيش، جاءت في السنة الأخيرة مريدة بأوامر قضائية وقرارات صادرة من مجالس التأديب الخاصة بهذه المؤسسات التي رأت أن هؤلاء المعاقبين تجاوزوا القوانين المنظمة لوظائفهم، ورأت أن بعضهم حاول استخدام ما تعطيه وظيفته من سلطة حتى ينفذ أجندة سياسية.
والثالثة هي أن هؤلاء المقالين والمعاقبين، عوقب وفق القانون المنظم للإدارة التركية ولازال أغلبهم يمارسون وظائفهم ولكن برتب أقل، كما لازال المقالون يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية ويظهرون بشكل يومي في وسائل الإعلام لمعارضة الحكومة، باستثناء عشرات يحاكمون الآن بتهم التجسس لصالح قوى أجنبية بعد أن ثبت تورطهم في تسريب معلومات خطيرة إلى خارج أجهزة الدولة أدت إلى تهديد حياة العاملين في أجهزة حساسة مثل الجيش والاستخبارات وهددت وربما أضرت بالأمن القومي لتركيا.
ومن جهة أخرى حاول فتح الله غولن في مقاله أن يغازل الغربيين عبر الإشارة إلى أن جماعته هي منظمة مجتمع مدني ينتمي إليها ملايين الأتراك الذين "يكرسون أنفسهم لدعم الحوار بين الأديان" والذين أسسوا "أكثر من 1000 مدرسة علمانية حديثة" وإلى أنه دعا "إلى التعليم، وخدمة المجتمع والحوار بين الأديان"، كما مضى في محاولات استعطاف القارئ الغربي عبر الحديث عن القضايا التي تلقى اهتمامًا كبيرًا في الغرب فقال: "لسنا وحدنا ضحايا قمع حزب العدالة والتنمية، فقد عانى متظاهرون سلميون مهتمون بشؤون البيئة، وأكراد، وعلويون، ومواطنون غير مسلمين وبعض المجموعات المسلمة السنية غير المنحازة لحزب العدالة والتنمية كذلك للقمع".
ويقع فتح الله غولن في مغالطة كبيرة عندما يتحدث عن قمع الأقليات في تركيا، حيث يعلم جيدًا أن المنتمين للأقليات العرقية الكثيرة في تركيا كانوا ممنوعين منذ عقود من مجرد التعبير عن انتماءاتهم العرقية، ويعلم أن من بين الأسباب الرئيسية لحدوث القطيعة بين حزب العدالة والتنمية وجماعة فتح الله غولن؛ إصرار الحزب على التخلي عن الحل العسكري في وجه الأكراد المتمردين في الجنوب الشرقي وانخراطه في عملية المصالحة التي حاولت الجماعة إجهاضها قبل الإعلان عنها ولازالت مؤسساتها الإعلامية تعارضها إلى اليوم.
وعندما يتحدث غولن عن جنوح حكومة العدالة والتنمية عن مسارها الأول وعن توجهها لقمع الأقليات، فإنه يقدم مغالطة صريحة حول الإصلاحات القانونية التي تسنها الحكومة بشكل مستمر لفائدة الأقليات، ومن بينها ما تم إقراره في السنة الأخيرة من قوانين ترفع عقوبة التمييز والعنصرية من السجن سنة واحدة إلى 3 سنوات، وتسمح لأول مرة باستخدام حروف x وq وw والتي كانت ممنوعة سابقًا والتي تستخدم بكثرة في اللغة الكردية وخاصة في الأسماء؛ مما سيمكن الأكراد من تسجيل أسماء أبنائهم باستخدام هذه الحروف، بالإضافة إلى إعادة التسميات القديمة للكثير من الأحياء والقرى الكردية.
في الختام، كل ما جاء في مقال غولن المنشور في أمريكا لا يحتوي على أي جديد يذكر، ويلخص بشكل مهذب وباللغة الإنجليزية القليل مما ينشر ويبث بشكل كبير وباللغة التركية داخل تركيا منذ اندلاع الصراع بين الجماعة والحزب، وعلى عكس راشد الغنوشي في العقدين الماضين، لم يلجأ غولن للنشر في الغرب بسبب منعه من النشر في وطنه الأم، وإنما فعل ما فعل بحثًا عن دعم خارجي لجماعته التي يصح أن يقال عنها "الجماعة المتآكلة" بعد أن بدأت تفقد كل ما بنته في العقود الماضية بسبب قرارها بتجاهل أبواب السياسة المتعارف عليها والمتاحة في تركيا ورغبتها في دخول المشهد السياسي التركي من الشباك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس