هيثم كحيلي - خاص ترك برس
يعتقد المشاهدون وكذلك معظم المتابعين أن مشروع العدالة والتنمية الذي أسسه وقاده رجب طيب أردوغان منذ أكثر من 15 سنة، هو مشروع تنمية بمعناها الشعبي البسيط أو بمعناها الاقتصادي الصناعي، أو مشروع عدالة بمعناها السطحي المتمثل في إحلال بعض الإصلاحات التشريعية المتبوعة ببعض السياسات التنفيذية التي ستساير نسق التنمية لتجعل من ظروف الحياة في الدولة التركية أفضل بقليل أو بكثير مما كانت عليه نفس هذه الدولة طيلة العقود التي تلت تأسيسها.
هذا الاعتقاد ولّد في السنتين الأخيرتين تعليقات من قبيل: "لقد قدم أردوغان الكثير لتركيا في السنوات الماضية والآن حان الوقت ليخرج ويفسح المجال لغيره ليقدموا"، أو من قبيل تشبيه مشروع أردوغان في تركيا بمشروع مهاتير محمد في ماليزيا، وهي تعليقات وتشبيهات تنُم عن عدم إلمام بالمشروع الذي طرحه أردوغان وحزبه منذ يوم تأسس، والذي زكته الإرادة الشعبية في حوالي 10 نقاط انتخابية.
وإن كان من البديهي أن يعلم الجميع أن مشروع حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان اعتمد بشكل كبير على محوري التنمية والعدالة وجعل منهما أولوية في السنوات الماضية، فإنه من الإجحاف أن يختزل مشروع هذا الحزب وهذا الزعيم ومن خلفهما من قوى نابعة عن وجدان الشعب التركي، في هاذين المحورين فقط وأن يتم التعامل مع مشروع "تركيا الجديدة" على أنها بدعة ابتدعها أردوغان في السنوات الأخيرة لشرعنة بقائه في السلطة.
والأصل والثابت في كل المشاريع والوعود والحملات الانتخابية السابقة لحزب العدالة والتنمية، هو أن حزب العدالة والتنمية قام بالأساس بسبب انسداد كل الآفاق في ظل تركيا القديمة بكل مكوناتها بما في ذلك الأحزاب التي نشأ وترعرع في داخلها أردوغان، وفي اللحظة التي سبقت لحظة الصفر، أي قبل تأسيس الحزب، تشكل لدى مؤسسي العدالة والتنمية وعي بأن نضالاتهم ونضالات من سبقوهم كانت تصب في حلقة مفرغة مستمرة إلى ما لا نهاية من الصعود والسقوط المتتاليين، أو ربما لم تعدوا أن تكون مجرد حالة مزمنة من التخبط في داخل نفس الإطار المتمثل في النظام القائم داخل تركيا.
هذا الوعي، وعلى عكس ما حصل في دولنا العربية وما يحصل في الحالات المشابهة عامة، لم يدفع هؤلاء الفتية نحو خيار الثورة، وإنما نحو خيار "الثورة الهادئة"، وذلك لأن الوعي بعدم صلاحية هذا الوعاء (النظام) صاحبه وعي بأن لا طاقة للشعب التركي المنهك والمشتت على تحمل أعباء الثورة وما يصاحبها من تحديات ومحن وفتن، ومن هنا بدأ الرهان على محوري العدالة والتنمية كخطوة أساسية ضرورية نحو الغاية الكبرى.
والرهان على محوري العدالة والتنمية لم يكن في شكل تمويه أو إخفاء للرهانات الكبرى المتمثلة في تغيير النظام، بل إن الحزب وقيادييه لم يتوقفوا يوما عن الحديث عن طموحهم وغايتهم المتمثلة في "تركيا الجديدة" بأشكال مختلفة، ففي البرنامج الانتخابي للحزب في سنة 2002 ورد البند الخامس تحت عنوان "إنشاء الإدارة/النظام من جديد" متضمنا تفاصيلا عن تصور الحزب لمركزية الحكم وللحكم المحلي والإدارة داخل الدولة وجزئيات أخرى، ثم في سنة 2007 كان الحديث صريحا جدا ومكتوبا عن دستور جديد لتركيا، وعن إعادة النظر في دور ومكانة وصلاحيات رئيس الجمهورية، ثم أعلن في سنة 2011 عن مشروع تركيا 2023، ثم في 2014 عن المشروع المتكامل والدقيق لـ "تركيا الجديدة".
وصراحة أردوغان ورفاقه في الحديث عن مشروع تركيا الجديدة التي يعتبر النظام الرئاسي أحد ركائزها، لا تقف عند توثيق هذا في البرامج الانتخابية، أو عند التصريحات السياسية المتطابقة لأردوغان طيلة العقدين الماضيين في هذا الخصوص، وإنما تتجلى أيضا في عدد من الأعمال الفنية الضخمة المحسوبة على من يشاركون أردوغان في مشروعه هذا، ولعل أبرز هذه الأمثلة هو مسلسل "قيام أرطوغرول" أو بالتركي "ديريليش أرطوغرول"، والذي يتحدث عن مسيرة أرطوغرول ابن سليمان شاه وأب عثمان مؤسس الدولة العثمانية، حيث يحاكي المسلسل بطريقة عبقرية المخاض الذي يخوضه الشعب التركي اليوم لأجل الانتقال من الدولة التركية القديمة إلى الدولة التركية الجديدة، وذلك بحديثه عن مسيرة أرطوغرول الذي عاش مخاضا عسيرا خلال انتقاله بقبيلته من مكانة الرعية المستضعفة التابعة لوصاية الدولة السلجوقية المتآكلة الموشكة على الانهيار، إلى مكانة الزعامة في مسيرة قيادة الدولة السلجوقية نحو النسخة الجديدة من الدولة القوية المتمثلة في الدولة العثمانية، دون التمرد على الدولة السلجوقية أو الدخول في حرب معها رغم كل مساوئها.
وفي كل تفاصيل المسلسل، يبعث القائمون عليه ومعدوه رسائلا واضحة وصريحة وشديدة الذكاء عن الملاحم التي خاضها الشعب التركي في تلك المرحلة التاريخية الحرجة تحت زعامة أرطوغرول لأجل "القيام" والنهوض والانتقال من الدولة القديمة "منتهية الصلاحية" إلى الدولة الجديدة التي ستتضمن نظاما أكثر عدلا من سابقه وأكثر إتاحة لفرص التنمية والازدهار، وأكثر قدرة على حماية أبنائها من المخاطر الحثيثة المتنامية في المنطقة. رسائل دقيقة تقول صراحة بأن ما يميز أرطوغرول عن غيره، بما في ذلك إخوته، هو أن غايته لم تكن تحسين شروط العيش أو المحافظة على الموازين القائمة ومنع سقوطها، وإنما إخضاعها وتغييرها والتأسيس لمرحلة جديدة من التاريخ.
هذه الرسائل التي تعبر عن مشروع طرحه حزب العدالة والتنمية وزكاه الشعب التركي مرارا وتكرارا عبر صناديق الاقتراع، والتي تحولت إلى مشروع دولة، نجحت في شكلها الفني الدرامي في الاستحواذ بشكل مطلق على نسب المشاهدة طيلة السنتين الماضيتين، وهو إنجاز لم يسبق أن حققه أي عمل درامي بث على قناة "تي أر تي" الحكومية التي لم تكن قادرة في السابق، ولا زالت كذلك لليوم، على منافسة عشرات القنوات التلفزية الخاصة المنتجة لمئات الأعمال الدرامية العملاقة منذ عقود.
إذا هو مشروع وطموح معلن منذ البداية، سواء عبر التصريحات المتتالية، أو عبر البرامج الانتخابية أو عبر الإجراءات المماثلة لاستفتاء تعديل الدستور في سنة 2011، أو من خلال انتخاب أول رئيس للجمهورية في تاريخ تركيا في سنة 2014 عن طريق صناديق الاقتراع الشعبية وليس عن طريق البرلمان وتوافقات الأحزاب كما جرت العادة، أو كذلك عبر الأعمال الفنية، قيام أرطوغرول مثال وليس كل شيء، الصريحة التي نجحت في تحقيق أرقام قياسية وتاريخية من نسب المتابعة والإعجاب.
هو مشروع يتزعمه أردوغان للقيام بتركيا وبالشعب التركي من حاله القديم إلى حاله الجديد، مشروع لا ينافي الديمقراطية وإنما ينطلق من مبادئها ومن قيمها، مشروع مطروح منذ يومه الأول للنقاش وللتمحيص من قبل الشعب التركي عبر كل الوسائل الديمقراطية المتاحة والمتعارف عليها بما في ذلك تلك التي لم تعرفها تركيا قبل العدالة والتنمية، وليس أجندة خفية جاءت لتقمع إرادة هذا الشعب ولا نزوة من نزوات ديكتاتور عسكري مهووس.
من أراد أن يناقش هذا المشروع فليناقشه انطلاقا من هذا الواقع، لا انطلاقا من انطباعات زائفة شكلتها حملات الضغط الدولية بهدف إيقاف المشروع وتسفيهه وربطه بالصورة النمطية لدكاترة المنطقة وإظهاره في شكل طموح وهوس شخصي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس