سعيد الحاج - عربي21
في الاتصال الهاتفي الشهير بين الرئيسين الأمريكي والتركي الذي يبدو وفق التسريبات الصحافية بأن الأول أعلم الثاني خلاله بنيّة بلاده الانسحاب من سوريا، قال ترمب لاردوغان: “نحن سننسحب، سوريا كلها لك”. أدت الترجمة الحرفية المباشرة لهذه الكلمات القليلة إلى تفسيرات من قبيل أن الولايات المتحدة قد أوكلت لتركيا إكمال مهمتها في سوريا أو فوضتها بالسيطرة عليها وما إلى ذلك. والحقيقة أن هذه التقييمات بعيدة عن الدقة بمقدار بُعدها عن التفسير اللغوي للجملة وأسلوب ترمب في الحديث وواقع العلاقات التركية – الأمريكية مؤخراً.
هذا التقييم الذي كتبناه في حينها بات عليه أكثر من دليل واضح، لا سيما حديث وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي حذر مما أسماه “قتل تركيا لأكراد سوريا”، وتصريحات مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي أكد أن بلاده لن تنسحب من سوريا قبل أن تؤمن قوات سوريا الديمقراطية/الأكراد وأنه على تركيا ألا تقوم بأي عملية عسكرية قبل التنسيق مع واشنطن. وهي تصريحات لاقت ردوداً حادة من أنقرة، ما يجعل زيارة الأخير لها غداً/الثلاثاء مهمة صعبة ذات جدول أعمال محتدم.
في الأصل، انسحاب القوات الأمريكية من سوريا لا يعني غياب دورها وانتهاء سياساتها تماماً، أولاً بسبب وجود قوات وقواعد عسكرية لها في المنطقة إن كان في العراق أو تركيا أو غيرهما، وثانياً لأن الدور السياسي الأمريكي لا يعتمد حصراً على الوجود العسكري المباشر، وثالثاً لأن الولايات المتحدة تعمل على استدامة سياساتها وتحقيق أهدافها من خلال حلفائها وأصدقائها بدءاً من قوات سوريا الديمقراطية مروراً بتركيا وليس انتهاءً بالتحالف الدولي لمحاربة داعش، فضلاً عن بعض الدول العربية والكيان الصهيوني وربما أيضاً تفاهمات ضمنية غير معلنة مع روسيا.
من هذه الزاوية يمكن تقييم النشاط السياسي والدبلوماسي الأمريكي الأسبوع الحالي من خلال جولتي بومبيو وبولتون في المنطقة، حيث تريد الولايات المتحدة تطمين بعض الأطراف المنزعجة من قرار انسحابها من سوريا، وتحذير بعض الأطراف الأخرى – النظام السوري مثلاً – من أي تغييرات جذرية في المشهد السوري، وتحميل بعض أصدقائها مسؤوليات معينة بعد الانسحاب الأمريكي المفترض، في حال حصل.
ورغم كل ذلك، لا يمكن بحال التقليل من شأن الانسحاب الأمريكي من سوريا على واقع ومستقبل قوات سوريا الديمقراطية التي رهنت مشروعها بالقوات الأمريكية إلى حد كبير. ففي هذا الإطار، سيكشف الانسحاب المزمع ظهر هذه القوات ويتركها أمام احتمالات عملية عسكرية تركية مباشرة ضدها. فهل تخلت واشنطن عن “حلفائها الأكراد”؟
لا يبدو ذلك منطقياً، إلا إذا افترضنا أن واشنطن كان لديها فعلاً مشروع لتأسيس دولة أو دويلة “كردية” في سوريا، وهذا ما لا أعتقده ولا يوجد عليه دليل ملموس. ما أرادته واشنطن وفعلته هو إيجاد قوة محلية تكون رأس الحربة في مواجهة داعش من جهة وتسويغ – نسبياً – وجودها في سوريا من جهة أخرى. فإذا ما استطاعت الولايات المتحدة الاستمرار في الأمرين دون البقاء الميداني في سوريا فلا يعتبر ذلك نقضاً كاملاً لما فعلته سابقاً ولا تخلياً عن قوات سوريا الديمقراطية، حيث أعلن بولتون بشكل واضح أغضب أنقرة أن بلاده لن تتخلى عنهم ولن تنسحب قبل تأمينهم.
بهذا المعنى، فمشروع قوات سوريا الديمقراطية في سوريا مستمر حتى ولو حصل الانسحاب الأمريكي، لكنه اهتز بالتأكيد بسبب اختلال التوازن المتوقع بعد الانسحاب، ولذلك فهيتسعى للقاءات مع النظام وتقديم اقتراحات لموسكو لضمان عدم شن أنقرة عملية عسكرية ضدها وتأمين دور لها في مستقبل سوريا.
حسناً، ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة لتركيا؟ يعني باختصار أنها تدرك أن المشروع الذي يقوده حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية في سوريا، والذي تمثل مواجهته ومكافحته أولويتها في الملف السوري في السنوات القليلة الأخيرة، مستمر ومستدام ولا يمكن لها أن تطمئن لأي عوامل أو فواعل خارجية لتقويضه أو حتى تجميده.
أكثر من ذلك، فقد اعتادت تركيا منذ 1984 على فترات من المد والجزر في مسيرة مكافحتها لحزب العمال الكردستاني وحربه الانفصالية ضدها، حيث كان يصل أحياناً إلى حدود الذوبان و/أو الانهيار، قبل أن يعيد إحياء نفسه على هامش متغيرات إقليمية أو دولية أو بفعل دعم خارجي استطاع تحصيله.
ما يعني وفق الأجندة التركية أن على أنقرة “تقليع شوكها بيدها” حسب المثل العربي أو “قطع حبلها السُّرِّي بنفسها” وفق التعبير التركي، أي أن تعتمد فقط على قدراتها الذاتية في مواجهته. لكن ذلك لا يعني، مرة أخرى، عملية عسكرية تركية واسعة في مناطق شرق الفرات للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية تماماً أو السيطرة على كافة الأراضي التي تسيطر عليها. لم يكن ذلك هدف تركيا سابقاً ولا يتوقع أن تعمل عليه بعد الانسحاب الأمريكي. فغاية أنقرة هي تقويض أسس المشروع وليس القضاء التام على من يحاول تنفيذه.
وعليه، فالمتوقع اليوم كما سابقاً هو بعض المحاور الرئيسة التي تصب في خدمة هذا الهدف، مثل السيطرة على منبج وبعض البلدات الحدودية مثل تل أبيض ورأس العين وعين العرب، إضافة لشريط حدودي يؤمن الداخل التركي، فضلاً عن بعض الضربات المحددة للعتاد ومخازن الأسلحة وبعض الشخصيات القيادية ربما. أما ما دون ذلك، وخصوصاً عمق مناطق شرق الفرات، فليس على الأجندة التركية الوصول لها أو السيطرة عليها، بل ستكون سيطرة النظام عليها كافية جداً لتركيا وأقل كلفة عليها وفق سيناريو تقاسم النفوذ والسيطرة الذي تحاول بلورته مع موسكو.
كل ذلك في حال نفذ ترمب فعلاً وعده بالانسحاب، وهو ما يبدو أنه بات في دائرة الشك على الأقل وفق الجدول الزمني الأولي، خصوصاً بعد الاعتراضات داخل المؤسسة الأمريكية، ما يعني أن كل التقييمات التي بنيت عليه ما زالت في حيز الافتراضي حتى يتحقق، إن تحقق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس