د. علي الصلابي - خاص ترك برس

يحمل التاريخ العثماني في طياته كثيراً من الأحداث التاريخية التي صورت الواقع السياسي في تلك الحقبة، وخاصة أيام حكم السُّلطان العثمانيُّ سليم الأول، التي تغيرت فيها السياسة العثمانية تجاه المماليك من الصفاء والصداقة إلى العداء، بعد أن تغلَّب السُّلطان على الصَّفويِّين في شمال وغربي فارس وانتهى منهم وقهرهم، وبدأ يستعدُّ للقضاء على دولة المماليك، ولقد ساهمت عدَّة أسباب في توجه العثمانيين لضمِّ الشَّام، ومصر منها:

1- موقف المماليك العدائيُّ من الدَّولة العثمانيَّة.

2- الخلاف على الحدود بين الدَّولتين في طرسوس في المنطقة الواقعة بين الطَّرف الجنوبي الشَّرقي لآسيا الصُّغرى، وبين شمالي الشَّام.

3- تفشِّي ظلم الدَّولة المملوكيَّة بين النَّاس، ورغبة أهل الشَّام، وعلماء مصر في التخلُّص من الدَّولة المملوكيَّة، والانضمام إِلى الدَّولة العثمانيَّة.

4- رأى علماء الدَّولة العثمانيَّة: أنَّ ضمَّ مصر، والشَّام يفيد الأمَّة في تحقيق أهدافها الاستراتيجيَّة، فإِنَّ الخطر البرتغالي على البحر الأحمر، والمناطق المقدَّسة الإِسلاميَّة .

* فتح الشام ومصر وأسباب انتصار العثمانيين:

بعد التطوُّرات الَّتي حدثت بين الدَّولة العثمانيَّة، والدَّولة الصَّفوية كان على السُّلطان المملوكي «قانصوه الغوري» أن يتَّخذ أحد المواقف تجاه الحدث، إِمَّا الوقوف إلى جانب العثمانيِّين، أو الوقوف إلى جانب الصَّفويِّين. أو الوقوف على الحياد بين الطَّرفين.

وفضَّل الغوري أن يقف على الحياد في ظاهره، إِلا أنَّ المخابرات العثمانيَّة عثرت على خطاب تحالفٍ سرِّي يؤكِّد العلاقة الخفيَّة بين المماليك، والفرس، والخطاب محفوظٌ في أرشيف متحف طوب قابو في إستانبول.

وكان السُّلطان سليم يريد الكرَّة على الشِّيعة الصَّفويَّة في بلاد فارس، ومع توتُّر الأحداث؛ رأى السُّلطان سليم تأمين ظهره، وذلك بضمِّ الدولة المملوكيَّة إِلى أملاكه.

والتقى الجمعان على مشارف حلب في معركة (مرج دابق) عام 1517م وانتصر العثمانيُّون، وقُتِل الغوري سلطان المماليك، وأكرم العثمانيُّون الغوري بعد مماته، وأقاموا عليه صلاة الجنازة، ودفنوه في مشارف حلب، ودخل سليم حلب، ثمَّ دمشق، ودُعي له في الجوامع، وسُكَّت النُّقود باسمه سلطاناً، وخليفةً. ومن الشَّام أرسل السُّلطان سليم إِلى زعيم المماليك في مصر «طومان باي» أن يلتزم بالطَّاعة للدَّولة العثمانيَّة، وكان ردُّ المماليك السُّخرية برسول السُّلطان، ثمَّ قتله.

وقرَّر السلطان سليم الحرب، وتحرَّك نحو مصر، وقطع صحراء فلسطين قاصداً مصر، ونزلت الأمطار على أماكن سير الحملة ممَّا يسَّرت على الجيش العثماني قطع الصَّحراء النَّاعمة الرِّمال بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكةً يَسهل اجتيازها .

وحقَّق العثمانيُّون انتصاراً ساحقاً على المماليك في معركة (غزَّة)، ثم معركة (الرَّيدانيَّة). وتعود الأسباب الَّتي أدَّت إِلى هزيمة المماليك، وانتهاء دولتهم، وانتصار العثمانيِّين، وعلوِّ نجمهم إِلى:

1- التَّفوُّق العسكري لدى العثمانيِّين.

2- سلامة الخطط العسكرية العثمانيَّة.

3- معنويات الجيش العثماني العالية، وتربيته الجهاديَّة الرَّفيعة.

4- حرص الدولة العثمانيَّة على الالتزام بالشَّرع، واهتمامها البالغ بالعدل بين رعايا الدَّولة.

5- قناعة مجموعةٍ قياديَّةٍ من المماليك بالانضمام لجيش السُّلطان سليم، وتحمُّل مسؤوليَّة الحكم تحت إِطار الحكم العثمانيِّ.

لقد تلقَّى المماليك الهزيمة في سنة 1516/1517م وهم في شيخوخة دولتهم، وفي آخر صفحةٍ من صفحات تاريخهم، كقوَّة إِسلاميَّة كبرى سواءٌ في الشَّرق الأوسط، أو في العالم، قد كانوا فقدوا حيويَّتهم، وقدرتهم على تجديد شبابهم، فكان أن زالت دولتهم، وذهبت البلاد الَّتي كانت تحت حكمهم للنُّفوذ العثماني.

* خضوع الحجاز واليمن للعثمانيِّين:

كانت الحجاز تابعةً للمماليك، وعندما علم شريف مكَّة بمقتل السُّلطان الغوري، ونائبه طومان باي، بادر شريف مكَّة «بركات بن محمَّد» إِلى تقديم السَّمع، والطَّاعة إِلى السُّلطان سليم الأوَّل، وسلمه مفاتيح الكعبة، وبعض الآثار، فأقرَّ السُّلطان سليم شريف الحجاز بركات باعتباره أميراً على مكَّة، والحجاز، ومنحه صلاحياتٍ واسعةً.

وبذلك أصبح السُّلطان سليم خادماً للحرمين الشَّريفين، وأصبحت مكانته أقوى أمام الشُّعوب الإِسلاميَّة، وبخاصَّةٍ: أن الدَّولة أوقفت أوقافاً كثيرةً على الأماكن المقدَّسة، وكانت إِيراداتها تصبُّ في خزانةٍ مستقلَّةٍ بالقصر السُّلطاني، وقد أدَّى ضمُّ الحجاز إِلى العثمانيِّين إِلى بسط السِّيادة العثمانيَّة في البحر الأحمر ممَّا أدى إِلى دفع الخطر البرتغاليِّ عن الحجاز، والبحر الأحمر، واستمرَّ هذا حتَّى نهاية القرن الثامن عشر.

وبعد انهزام المماليك قَدِمَ حاكم اليمن المملوكيُّ الجركسيُّ (إسكندر) على رأس وفدٍ إلى السُّلطان سليم، ليقدِّم فروض الولاء والطَّاعة له، فوافق السُّلطان العثمانيُّ على إبقائه في منصبه، وكانت اليمن تشكِّل بُعداً استراتيجياً، وتعتبر مفتاح البحر الأحمر، وفي سلامتها سلامةٌ للأماكن المقدَّسة في الحجاز، وكانت السَّيطرة العثمانيَّة في بداية الأمر ضعيفةً، بسبب الصِّراعات الدَّاخلية بين القادة والمماليك إلى جانب الإمامة الزَّيديّة بين قبائل الجبال، هذا فضلاً عن الخطر البرتغاليِّ، الّذي كان يهدد السواحل اليمنيَّة، وقد أرسل السُّلطان سليمان حملة «سليمان باشا أرناؤوطي» سنة 945ه/1538م وقد ضمَّت الحملة 74 سفينةً و 20000 شخصٍ، وكان هدف الحملة احتلال اليمن وبخاصّة عدن، ثم إغلاق مضيق باب المندب أمام السُّفن البرتغاليَّة، ودخل العثمانيّون عدن عام 946ه/1539م، وتعز عام 952ه/1545م، وسقطت صنعاء في قبضتهم عام 954ه/1547م.

* أسباب انهيار الدَّولة المملوكيَّة:

هنالك مجموعةٌ من العوامل تجمَّعت، وساعدت في وضع نهايةٍ لدولة المماليك، أهمُّها:

1- عدم تطوير المماليك أسلحتهم، وفنونهم القتاليَّة.

2- كثرة الفتن، والقلاقل، والاضطرابات بين المماليك حول ولاية الحكم.

3- كُرْهُ الرَّعايا للسَّلاطين المماليك؛ الَّذين كانوا يشكِّلون طبقةً أرستقراطيَّةً مترفِّعةً منعزلةً عن الشُّعوب.

4- وقوع بعض الانشقاقات بين صفوف المماليك.

5- سوء الأحوال الاقتصاديَّة، وبخاصَّةٍ عندما تغيَّرت طرق التُّجارة المارَّة بمصر.

6- العامل الجامع للأسباب السَّابقة: ضعف التزام المماليك بمنهج الله وشرعه.

* مسألة انتقال الخلافة:

إِن مسألة انتقال الخلافة إِلى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر، وقد قيل: إِنَّ آخر الخلفاء العباسيِّين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة، وإِنَّ الواقع التَّاريخي يقول بأنَّ السُّلطان سليم الأوَّل أطلق على نفسه لقب «خليفة الله في طول الأرض وعرضها» منذ عام 1514م (920هـ) أي: قبل فتحه للشَّام، ومصر، وإِعلان الحجاز خضوعه لآل عثمان.

فالسُّلطان سليم وأجداده كانوا قد كسبوا مكانةً عظيمةً تلائم استعمال لقب الخلافة؛ في الوقت الَّذي كان فيه مركز الخليفة في القاهرة لا يعتدُّ به. كما أنَّ فتوح سليم أكسبته قوَّةً، ونفوذاً معنوياً ومادِّيّاً، وخصوصاً بعد دخول الحرمين الشَّريفين تحت سلطانه، وأصبح السُّلطان العثمانيُّ مقصداً للمستضعفين المسلمين؛ الَّذين يتطلَّعون إِلى مساعدته بعد أن هاجم البرتغاليُّون الموانئ الإسلاميَّة في آسيا، وإفريقية.

وسنرى في الحلقة القادمة كيف حدث الصراع العثماني البرتغالي ودارت الحرب بين الجانبين، وأهم نتائج هذا الصراع ، في مشهد جديد من مشاهد التاريخ العثماني أيام حكم السلطان العثماني سليم الأول.


مراجع البحث:

- د. علي محمّد الصلابي. الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص (150: 157).
- د. جميل بيفون، د. شحادة النَّاظور، الأستاذ عكاشة، تاريخ العرب الحديث، دار الأمل للنَّشر والتوزيع، الطَّبعة الأولى 1412هـ/1992م، ص 40.
- زكريا سليمان بيومي، قراءة جديدة في التاريخ العثمانيين، عالم المعرفة ، جدّة، الطبعة الأولى،1991م، ص 70.
- د. عبد العزيز سليمان نوار، الشعوب الإِسلاميَّة، الأتراك العثمانيُّون، الفرس، مسلمو الهند، دار النَّهضة العربيَّة، طبعة 1411هـ/1991م، ص (92 - 93).
- د. علي حسُّون، تاريخ الدَّولة العثمانيَّة، المكتب الإِسلامي، الطَّبعة الثَّالثة، 1415ه/ 1994م، ص (41 -63).
- د. محمد حرب، العثمانيّون في التّاريخ والحضارة، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى، 1409هـ/1989م ، ص 30 - 170.

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس