ميرا خالد خضر - خاص ترك برس
قصة الحجاب في تركيا قضية قديمة جديدة تم تسليط الضوء عليها من طرف سياسيين ومتدينين وعلمانيين وإعلاميين. حصر بعض السياسيين قضية الحجاب بين أتاتورك وأردوغان، أما العلمانيون فنبذه متطرفوهم لزعمهم عدم توافقه مع الحياة العصرية ووجوب الانتماء للاتحاد الأوروبي وابتعادًا عن التطرف الديني، في حين التزم به متدينون كحكم شرعي وثقافة دينية.
تناول بعض الإعلاميين والصحافيين قضية الحجاب في تركيا على أساس أنها أزمة نضال سياسي، أو حرب ضد الحجاب في تركيا تارة مع العلمانية وتارة أخرى مع المتدينين، بعد كل هذا التجاذب والتنافر لعقود تبيّن أنّ مسألة الحجاب في تركيا ليست قضية تنافس سياسي أو محاولة إثبات رأي بكل قوة عناد أو نضال حزبي أو مسألة جذور تاريخية، فمسألة الحجاب في تركيا أبعد من كل ذلك.
ألم يكن الحجاب في تركيا موجودا في قلب بدايات تأسيس كمال أتاتورك لحكومته وقبل أن يتم تمريره للبرلمان والاستفتاء عليه من طرف الحزب الحاكم بداية القرن الحالي، ألم يكن الحجاب في تركيا مجرد فكرة إقناع وتجريد وارتداء..
تمسك المرأة التركية بالحجاب رغم كل شيء
برغم أن المرأة التركية عايشت سنوات طويلة في بلد علماني، ولم تكن مجبرة أبدا على ارتداء الحجاب، لكنها ناضلت من أجله واقتنعت به ولبسته والتزمت به، ولم تتخلى عنه رغم كل شيء، ورغم كل الاختلاف السياسي الذي عاشته المرأة التركية المتحجبة إلا أن نفسيتها الصادقة وعمق إيمانها كان أصل بقاء الجدل حول الحجاب في تركيا من الأساس..
قال الله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].. لو تغيرت المرأة التركية لكان التخلي عن الحجاب هينًا ولكان اختفى من تركيا منذ وقت بعيد.. لكنها لم ولن تحيد عن إسلامها وتمسكها بمبادئها، وخلال أكثر من تسعين عامًا مرّ حق ارتداء الحجاب في تركيا مراحل لإثباته منذ تطبيق أتاتورك قرار حظر الحجاب، فعلت أصوات عدة معارضة له مثل محاولات بديع زمان النورسي، وهو داعية إسلامي تركي من أصول كردية، ووصولًا إلى نجم الدين أربكان، مؤسس حزب "الفضيلة"، الذي يعد استمرارًا للأحزاب الممثِّلة للإسلام السياسي.
وبالرغم من إقرار المجتمع التركي والساسة بعد إعلان قيام الجمهورية في العام 1923، منع المحجبات من العمل بحجابهن وفرض قانون ارتداء المرأة العاملة التركية بدواوين الدولة والحكومة والمدرسة والجامعة التنورة الطويلة والبلوزة وخلع الحجاب مسايرة للغرب، حتى خمسينيات القرن الماضي، تم التضيق أكثر على المرأة التركية المحجبة قبل أن يتحول الأمر إلى قانون رسمي بعد الانقلاب العسكري في سنة 1980، وصار الحق لرجال الأمن في منع المتحجبات دخول الجامعات والمشافي والمؤسسات الحكومية أو العمل فيها.
وعقب الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجنرال كنعان إيفرين في 12 أيلول/ سبتمبر 1980، أصبح الحجاب في الواجهة السياسية عند اقِرار قانون يحظر دخول المحجبات إلى الجامعات ومعاهد والمدارس وقاعات المحاكم والإدارات والمؤسسات الحكومية، وحتي داخل مدارس الأئمة والخطباء.
غادرت آنذاك العديد من المتحجبات البلاد ووضعت بعضهن القبعات أو غيرها فوق رؤوسهن، في حين اعتزلت أخريات مقاعد الدراسة والعمل، وصولًا إلى القهر العسكري الذي كان يتسبب أحيانًا في إلغاء أحزاب والزج بقادتها في السجن، أو طرد الضباط من الجيش إذا ثبت أن أحدهم يواظب على الصلاة أو أن زوجته محجبة، وفُصِلت أعداد متزايدة من الموظفات في أجهزة الدولة بسبب الحجاب، وتواصل التعسف ضد الطالبات المحجبات بعدما صدر عام 1981م قانون يمنع ارتداء الحجاب في الجامعات التركية، ولكن تورغوت أوزال (رئيس الوزراء المنتخب عام 1983م) تراجع عن هذا القانون، ثم أبطلته المحكمة الدستورية في إصدار قانون 1987م يمنع دخول المحجبات إلى الجامعات، وقد تم التراجع عــن هذا القانون سنة 1991م، ولكن لم يمنع هذا مـن استمرار الحظر في جامعات كثيرة، من قِبَل البرلمان والمحكمة الدستورية.
وخلال تسعينيات القرن العشرين عادت قضية رفض الحظر على ارتداء الحجاب إلى الواجهة عند استلام نجم الدين أربكان رئاسة الوزراء التركية في 1996 و1997، قبل أن يحظر حزبه "الرفاه" في 1998، بسبب "انتهاك مواثيق علمانية الدولة"، حيث كان له دور فعال في إثارة القضية من جديد وبروزها على الساحة التركية.
وفي عام 1999 انطلقت تظاهرات عارمة بتركيا تعترض على قرار حظر الحجاب، وأعتُقل عدد من المتظاهرين ومنعت المتحجبات من دخول المؤسسات الحكومية منهن النائبة في البرلمان مروى قاوقجي، التي منعت من دخول البرلمان لأداء اليمين الدستورية بعد انتخابها لأنها محجبة، وأصر وقتها أعضاء الحكومة التركية الائتلافية حينها بزعامة بولنت أجاويد وأعضاء البرلمان من الحزب الديمقراطي اليساري على طردها من البرلمان، وقالت مروة قواقجي آنذاك لإحدى الجرائد التركية: "أنا بنت العلمانية ولن أخلع الحجاب"، ثم حُرمت من جنسيتها التركية بحجة حملها للجنسية الأمريكية رغم أن القانون يسمح لها بتعدد الجنسيات.
في عام 2000 تفاقمت أزمة الحجاب في تركيا، بعد أن توفيت طالبة محجبة (خديجة 16 عامًا) دهستها إحدى الحافلات في أثناء اعتصامها أمام بوابة إحدى مدارس الأئمة والخطباء احتجاجًا على قرار منع الحجاب، وفي الوقت ذاته أظهر استبيان للرأي أجرته شركة تركية بالتعاون مع برنامج تلفزيوني تركي خاص ذي اتجاه علماني أن قرابة 74% من المشاركين بالاستبيان يرون عودة المحجبات للجامعات.
وأظهر استبيان نشرت نتائجه قناة تلفزيونية خاصة وشمل كافة الأقاليم التركية السبعة بمشاركة 1863 شخصًا بينهم 924 امرأة، أن 61% من النساء التركيات يرتدين الحجاب، وأن 73.7% من العينة طالبوا بالسماح للمحجبات بالدخول إلى الجامعات. ورأى 70% من العينة بأن الحجاب هو طريقة حياة وليس رمزًا سياسيًا. وفيما يتعلق بحجاب زوجة رئيس الجمهورية اعتبر 70.5% من العينة أنه لا يمثل أية مشكلة ولا يعد عائقًا، وطالب 51.3% من العينة بحضور زوجتي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المحجبات الاحتفالات والمراسم الرسمية للدولة، وقال 28.3% من العينة: إن عدد الأشخاص المحافظين قد ازداد في عهد حكم حزب العدالة والتنمية، وأبدى 50.5% من حجم العينة رغبة بتغيير الدستور التركي، وهذا ما أعلنته جهات علمانية.
بعدها نجح حزب العدالة والتنمية في عام 2008 في تمرير مشروع قانون في البرلمان بموافقة 411 صوتا من أصل 550 مقعدا يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات، وقد استنفرت القوى العلمانية ونجحت عبر المحكمة الدستورية العليا في إبطال مفعول القانون رغم مصادقة رئيس الجمهورية عبد الله غول عليه، وهكذا تحولت قضية الحجاب في تركيا إلى قضية سياسية بامتياز.
توالى الانفراج في قضية الحجاب بعد النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية في الاستفتاء الدستوري عام 2010، والذي تم بموجبه تعديل 26 مادة من الدستور تتعلق جلها بالجسم القضائي والمحاكم المدنية والحريات الفردية والحقوق، بعد قبولها في استفتاء شعبي لتصبح سارية المفعول.
وفي 1 تشرين الأول/ أكتوبر لعام 2013 أعلن رسميًا ضمن حزمة الإصلاحات وحزمة الديمقراطية التي أعلن عنها رئيس الوزراء في تلك الفترة رجب طيب أردوغان (والذي درست ابنته المحجبة في جامعة بأمريكا) رفع الحظر على ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة، حيث أبدى حزب العدالة والتنمية رأيه عن ارتداء الحجاب بأنه خصوصية في إطار الحرية الشخصية والدينية التي تكفلها القوانين التركية والأوروبية، فيما شكّل نوعا من المصالحة التاريخية بين المجتمع والدولة عبر رفع الإجراءات القسرية التي فرضت على المواطنة التركية وهويتها الاجتماعية الحضارية.
وشهدت مراسم احتفال الأتراك بعيد النصر يوم 30 أغسطس/آب 2016، والذي اقيم بساحة تقسيم وسط إسطنبول بمشاركة مسؤولين كبار مدنيين وعسكريين حدثًا تاريخيًا، بعد ظهور أول شرطية تحمل رتبة ضابط بالحجاب بعد صدور قرار يجيز للمنتسبات للقوات المسلحة التركية ارتداء الحجاب. كما تمت تعديلات على اللوائح الخاصة بملابس العاملين في شركة الخطوط الجوية التركية، تتيح للموظفات المحجبات العمل بحجابهن في الشركة التي تملك الدولة فيها حصة قدرها 49.12% وتعد رابع أكبر شركة طيران في أوروبا.
وبالنهاية، بالرغم من مرورها بأزمة هوية، إلا أن المرأة التركية لم تتخلى عن جذورها الإسلامية، خاصة انتماءها للحضارة العثمانية، والماضي الذي يحمل في طياته مشاعر العزة والرقي، واستعابها للجهود التاريخية للحفاظ على انتمائها الإسلامي برغم ما أحدثته العلمانية من شرخ كبير في المجتمع التركي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس