د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
خسارة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم لكثير من المدن التركية الكبرى في الانتخابات المحلية الأخيرة وفي مقدمتها أنقرة العاصمة السياسية كانت ضربة موجعة بعد 17 عاما أمضاها منفردا في إدارة شؤون البلاد. الموجع أكثر قد يكون إلزامه بتسليم بلدية إسطنبول نفسها "خزان" صوت الحزب وقلبه النابض وعلى مرأى ومسمع "من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا كلها" لمرشح تكتل أحزاب المعارضة أكرم إمام أوغلو الذي بدأ يتحرك على أنه السيد الحقيقي في المكان منهياً قصة حب عمرها 25 عاما.
قد يكون "حزب الشعب الجمهوري" المعارض تمكن من زيادة عدد البلديات التي فاز بها بنحو 8 بلديات كبرى مما رفع حصته إلى 21 بلدية من أصل 81. وقد تكون هذه الانتخابات تحولت إلى عملية استفتاء على سياسات الحزب الحاكم الذي رفع شعار معركة البقاء في محاولة للوصول إلى تعبئة حزبية وشعبية واسعة لم تمنحه ما يريده في المدن التركية الأكثر كثافة سكانية. إلا أن الجميع يعرف أنه لا يمكن البناء على نتيجة هذه الانتخابات وحدها لتحديد مصير الحزب ومستقبله. حزب العدالة هو الحزب الأول وبفارق شعبي كبير عن أقرب منافسيه وهو الذي نجح في حماية أصواته وأثبت قدرته على الاحتفاظ بنسبة 52 في المئة من الثقل الجماهيري بالتنسيق مع حليفه حزب الحركة القومية.
الناخب التركي وعشرات الآلاف من قواعد الحزب لم يتخلوا عن الحزب وهم رفعوا البطاقة الصفراء فقط. وقفوا إلى جانب المجلس البلدي الذي رشحه الحزب في إسطنبول وأنقرة لكنهما اختارا التصويت لمرشحي المعارضة هناك وهذه هي الرسالة التي تستحق البحث والتدقيق.
ردة فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومن مقر الحزب في أنقرة حيث كان يلقي "خطاب الشرفة" التقليدي ليلة الأحد المنصرم هي إعلانه قبول رغبة الناخب واحترامها بعدما لم ينجحوا في التعريف بما يريدون إنجازه. لكن قيادات الحزب سارعت وبعد ساعات فقط للذهاب بمنحى آخر وهو الحديث عن أكبر عمليات تزوير في الانتخابات واحتمالات وجود مخطط معد ضد الحزب وتركيا بأصابع داخلية وخارجية للتلاعب بالنتائج وعمليات الفرز والعد. فما الذي سيفعله الحزب وكيف سيتصرف في الأشهر القليلة المقبلة؟
صحيح أن "العدالة والتنمية" هو في هذه الساعات أمام صدمة ما الذي جرى وما الذي سيجري بعد الآن؟ وأن عودة إسطنبول للحزب الحاكم ستكون وسيلة رفع المعنويات المتراجعة بسبب فقدان أهم وأكبر المدن التركية، وأن مهمته الكشف عن تفاصيل هذه المؤامرة في حال وجودها، لكن ذلك لن يخفي الحقيقة التي تقول إن قيادات العدالة عليها أن تتعامل مع الواقع الجديد من منطلق الاستعداد للحوار والتهدئة وتخفيف الشحن.
خلال المؤتمر الاستثنائي للحزب الذي سيعقد حتما لمناقشة النتائج سيكون هناك كثير من الأسئلة التي تنتظر الإجابة عنها: هل الوصول إلى هذه النتيجة في المدن الكبرى سببها الفشل في اختيار المرشحين القادرين على إقناع الناخب بخططهم ومشاريعهم؟ وهل هناك أي تأثير لابتعاد العشرات من القيادات التي لعبت دورا رياديا في التأسيس والإدارة عن الحزب في السنوات الاخيرة؟ وما هي حصة الأزمات الاقتصادية والمالية في توجيه قرار الناخب وسط حالة من الاستقطاب السياسي والحزبي والتعثر الحاصل في العديد من الملفات الإقليمية والدولية؟ وهل سيظل يصغي لما تقوله بعض الأقلام والأصوات التي يهمها حماية مصالحها وهي لن تتردد في التخلي عنه عندما تشعر أن الوقت قد حان؟
الدرس الأول من النتائج على مستوى الحزب الحاكم قد يكون مثلا فشلنا في الإصغاء وترجمة ما قاله وأراده الناخب بدلا من فشلنا في إقناع الناخب بتبني ما نريده. الناخب لم يتخل عن حزب العدالة لكنه سيفعل ذلك حتما إذا ما تخلى الحزب عن الإصغاء لما قالته وأرادته الصناديق.
الدرس الثاني قد يكون السياسي الحكيم هو من يتراجع عندما يشعر أنه فشل في إقناع الناخب بإعطائه ما يريد وليس من يدخل معه في مواجهة تصعيد وتحد خصوصا في هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تعيشها تركيا.
أما الدرس الثالث فهو ربما أن حزب العدالة ربح "الصوت الكردي" في الشرق وجنوب شرق البلاد لأن الأخير رفض أسلوب "حزب الشعوب الديمقراطي" ونداءاته بالتصعيد والتحدي وتوتير الأجواء، لكن المشكلة ستكون إذا ما قرر مساءلة قرار هذا الصوت في غرب تركيا وشمالها بسبب وقوفه إلى جانب مرشح المعارضة. السؤال قد يكون مثلا ما الذي سيفعله لكسب الناخب الكردي إلى جانبه وأي أسلوب سيتبع في المرحلة المقبلة وهو يتعامل مع هذا الملف الشائك والحساس.
وسط التراشق الكلامي والسياسي المستمر بين القيادات الحزبية في صفوف الحكم والمعارضة يعلن الناطق الرسمي باسم حزب العدالة عمر شليك لسنا وراء انتصار لا نستحقه. نائب رئيس الحزب علي إحسان يافوز يقول هدفنا الوصول إلى الحقيقة وأن يظهر قرار الناخب التركي بشكل واضح، نحن لا نشكك بالانتخابات والنظام الانتخابي التركي بل نعمل لتصحيح الأخطاء. هي خطوات إيجابية مهمة باتجاه تليين المواقف واحتمال إنهاء السجال حول من فاز في إسطنبول وأنقرة.
أقلام معتدلة مقربة من حزب العدالة تدعو إلى مراجعة حقيقية في أسباب خسارة المدن الكبرى وبينها اختيار المرشحين واللغة والأسلوب المعتمد إبان الحملات الدعائية وعدم الأخذ بتحذيرات الناخب قبل عامين. هي تقول إن الناخب سيتريث ويصبر مرة أخرى على سلوك القيادات والأحزاب لكن قراره قد يكون أكثر إيلاما في المرحلة المقبلة إذا ما لم يؤخذ ما يقوله ويريده بعين الاعتبار.
قيادات العدالة والتنمية هي أول من سيقبل بهذه الانتخابات التي عكست المزاج السياسي العام في البلاد والتي ينبغي أخذ نتائجها بعين الاعتبار. وهي التي ستطرح موضوع كيف ستكون ارتداداتها على الداخل التركي في السنوات الأربع المقبلة وحتى موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وهل الخسارة تتطلب مناقشة سياسات تركيا الإقليمية ومراجعة منظومة علاقاتها مع دول الجوار في إطار طروحات النموذج التركي الإقليمي وموضوع الدور التركي في تمثيل الإسلام السياسي أم أننا لم نصل إلى هذه النقطة بعد؟
"لا يمكننا ترك أنقرة لتجار السندات المزيفة" كلام أردوغان قبل ساعات من التوجه إلى الصناديق في رسالة علنية واضحة للناخب التركي في أنقرة لتذكيره بالوضع القانوني لمرشح المعارضة هناك منصور يواش. يواش هو من فاز وبفارق أكثر من 4 نقاط على مرشح حزب العدالة والتنمية. ما الذي سيجري الآن هل سيقال عفا الله عما مضى أم أن المواجهة مستمرة؟
المؤكد أيضا أن مرشح المعارضة في إسطنبول لن يكون لقمة سهلة الابتلاع. هو يواصل زياراته للمساجد والأضرحة وهو يرفض توصيف "البطة العرجاء" الذي أطلق على المعارضة لأن هناك رؤساء بلديات من المعوقين جسديا لكنهم أثبتوا كفاءات وقدرات عالية في الإدارة. هو يقول ردا على سؤال حول ما إذا كان يستعد لانتخابات الرئاسة المقبلة أن الله وحده يعلم.
الخلوة الحزبية ضرورية في المرحلة المقبلة والهدف محاسبة الذات ثم الحزب وبعده روح التحالف بكل إيجابياتها وسلبياتها. من سيتحمل مسؤولية الخسارة في العدالة والتنمية؟ الكثير من الواقعية والشجاعة وقبول المواجهة هو من سيساعد على تجاوز المرحلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس