د. سمير صالحة - العربي الجديد
من ورّط الآخر في وحول شمال غرب سورية، النظام السوري أم موسكو؟ لماذا فشلت خطتهما على جبهات إدلب، على الرغم من امتلاك التفوق العسكري والعددي والتقاعس الدولي؟ ما هي السيناريوهات الميدانية والسياسية الأقرب على ضوء هذا الانفجار الذي تتسع رقعة المواجهات فيه يوما بعد يوم؟ أين الذين كانوا يرفعون الصوت عاليا في وسائل إعلام عربية قبل أسابيع، وهم يشهرون بالمواقف التركية والصفقات المعقودة مع موسكو من وراء ظهر الشعب السوري؟ ولماذا اختفت تحليلات واستنتاجات التواطؤ بين أنقرة ودمشق بمبادرة روسية، تنهي آخر جيوب المعارضة السورية، وتفتح الطريق أمام قوات النظام للتقدّم نحو الحدود التركية السورية؟
لم يكن النظام السوري ليتحرّك في إدلب، لولا الضوء الأخضر الروسي، في محاولة لاختبار قوة الفصائل وقدراتها على عرقلة "دفرسوار" الاختراق، والانتشار داخل منطقة تخفيض التوتر المتفق عليها بين أنقرة وموسكو في سوتشي. يدفع النظام في هذه الساعات ثمن هذه المغامرة عسكريا وبشريا وروسيا، تتحمل مسؤولية الهزيمة سياسيا أمام تركيا والمجتمع الدولي، طالما أنها هي التي قرّرت تعطيل الاتفاقيات. وكلاهما يشكر على الجهود التي بذلها نحو دفع الفصائل إلى الوحدة الميدانية والتنسيق العسكري لرد العدوان.
محاور القتال التي يرتفع عددها في إدلب بين خياري الانتحار العسكري المكلف على الجميع أو الذهاب نحو عملية خلط أوراق سياسية جديدة باتجاه التسويات في ورية. وقد تجاوز الصراع في إدلب تفاهمات أستانة وسوتشي، وهو ينتقل رويدا رويدا إلى مواجهات سياسية، تفتح الطريق أمام طاولاتٍ بأشكال متعدّدة، وزوايا وأضلع مختلفة، وفي عواصم كثيرة. وقد غامرت موسكو اللاعب الأقوى في الملف السوري في الرهان على النظام، لتسجيل انتصارات عسكرية تفرضها على أنقرة، فوجدت نفسها وسط نيران أسلحة الثوار النوعية والأكثر فاعلية وسط تكتم تركي جارح. وليست واشنطن بريئة طبعا هنا، فهي التي وقفت إلى جانب أنقرة في موضوع إدلب منذ البداية، وحرّكت مفاجأة السلاح الأميركي النوعي المستخدم في مواجهة النظام والروس أخيرا.
الكرة في ملعب الفصائل أولا، وهي التي تملك القرار: إما مواصلة فتح الجبهات الجديدة في الشمال، وبينها جبهة الساحل، والإعلان أن الحرب بعد الآن هي مع روسيا بكل ثقلها، أو منح أنقرة وواشنطن وبعض العواصم العربية هدية هذه الانتصارات، لتجييرها إلى أوراق ضغط على الروس والنظام، لإلزامهما بخريطة طريق سياسية حقيقية حول المرحلة الانتقالية في سورية.
خيارات الكرملين محدودة أيضا بعد الآن: التصعيد العسكري المباشر، نيابة عن قوات بشار الأسد التي فشلت في تنفيذ الأوامر، ومواصلة سياسة الأرض المحروقة التي بدأتها قبل أسابيع في شمال غرب سورية، أو قبول الجلوس أمام طاولة إقليمية ودولية فيها كثير من التراجع والتنازلات لصالح تفعيل المرحلة الانتقالية في سورية. وقد تابعنا حجم انفعال روسيا قبل أيام في نيويورك، حين كان مندوبها في مجلس الأمن يجهد لتعطيل مشروع القرار الكويتي بطابع إنساني إغاثي حتى. لا أحد يتوقع من موسكو الغاضبة، وسط كل هذه السيناريوهات، أن تلجأ لتزويد النظام بالسلاح النووي لقتل السوريين كلهم في الشمال الغربي، بهدف إيقاف هجمات الفصائل، وإعادة الاعتبار لصورتها المهزوزة، وللرد على مصادر تسليح المعارضة في الآونة الأخيرة.
وستكتشف موسكو، على ضوء الحوار الأميركي، استحالة طرح سيناريو استراتيجي إقليمي في مواجهة واشنطن، يجمعها مع الصين وإيران وتركيا، لأن شركاءها المفترضين يعانون من صعوبة الخوض في مغامرةٍ من هذا النوع. ولأن موسكو نفسها التي تغاضت عن الهجمات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية الحسّاسة في سورية، ورفضت بيع الإيرانيين صواريخ إس – 400، وعرقلة خطط وصول الطاقة الإيرانية إلى أوروبا، قد تجد نفسها تساوم واشنطن على مستقبل التسويات السياسية والدستورية في سورية، وتعرض على أنقرة مهادنة واشنطن وعدم إغضابها أميركا أكثر من ذلك في صفقة الصواريخ.
وقد تجد موسكو في الملف السوري نفسها ملزمةً بمفاوضة واشنطن وتل أبيب على الورقة الإيرانية أولا. ثم قد تجد نفسها ذاهبةً وراء عروض مقايضة علاقاتها بأنقرة في أكثر من ملف ثنائي، وإقليمي ثانيا، إذا ما شعرت أن حظوظها وفرصها تتراجع في خرائط التحرّك الاستراتيجي الإقليمي الذي يشمل الطاقة والتجارة والوصول إلى الممرّات المائية. وقد تكون علاقاتها بالصين في المرحلة الثالثة أيضا تحت رحمة المساومات والصفقات أمام الطاولة الثنائية مع أميركا في قمة اليابان، والطاولة الثلاثية التي يجري الإعداد لها في تل أبيب، والتي ستكون بمشاركة مستشاري الأمن القومي في إسرائيل وأميركا وروسيا. ولكن هناك عواصم عربية وأوروبية كثيرة سترحب بحوارٍ من هذا النوع، يقود إلى إضعاف إيران وتركيا وإخراجهما من معادلات إقليمية كثيرة.
على جبهة أخرى، وفي مكان آخر، تريد واشنطن من أنقرة مراجعة علاقاتها بروسيا، وتركهاتفعل ما تريده في الملف الإيراني، وتليين مواقفها حيال إسرائيل، وقبول ما تقوله في موضوع شرق الفرات. ويكرّر المبعوث الأميركي المكلف بالملف السوري، جيمس جيفري، على مسامع الأتراك منذ فترة أن التراجع التركي في إدلب، أو الدخول في تفاهماتٍ أمنيةٍ جديدةٍ مع الروس باتجاه قبول سوتشي معدل ستكون تبعاته مكلفة، لأنه سيطلق يد روسيا في سياسة القضم التدريجي لآخر جيوب المعارضة، ويسحب منها آخر أوراقها العسكرية والسياسية في سورية.
تريد واشنطن من أنقرة أيضا، وهو التحرّك الأهم، أن تتعاون معها للتقريب بين قوى المعارضة السورية في شرق الفرات وغربه، وتوحيد صفوفهما تحت سقف مسار جنيف جديد، يأخذ مكانه بدلا من تفاهمات أستانة وسوتشي التي لم تقدم الكثير على الأرض. ولكن خطوة تركية من هذا النوع مرهونةٌ حتما بتحرّك أميركي نحو إنهاء حالة "وحدات حماية الشعب" والمجموعات الكردية المرتبطة بزعامات كردية في جبال قنديل وبقرار حزب العمال الكردستاني في شرق سورية. وستكون المساومة التركية الأميركية إذا على حسم ملف جبهة تحرير الشام في غرب الفرات، مقابل إنهاء عقدة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في شرقه.
يتفاعل سباق طاولات الحوار الثلاثي بين أنقرة وتل أبيب، فمن هو الذي سينجح في ترتيب هذه الطاولة، والجلوس جنبا إلى جنب مع الروس والأميركيين، لبحث مستقبل الملف السوري ويعلن ولادة يالطا جديدة؟ ما زالت عواصم عربية وخليجية تمنّي نفسها بإشعال المواجهة التركية الروسية الإيرانية في سورية، وهي تراهن في ذلك على التلطي وراء أميركا وإسرائيل، وفتح قنوات الحوار مع دمشق. لا يهم من سيدير شؤون المنطقة، ومن سيتحكّم بقراراتهم ومواقفهم، المهم هو التحرّر من الضغوط التركية والإيرانية. وهذا جيفري يقول إن بلاده وروسيا يختبران إمكانية فرص التعاون بينهما حول الملف السوري، وإنه إذا ما نجحت البداية في موضوع وقف إطلاق النار في إدلب، فستبدأ مرحلة اتخاذ القرارات الصعبة.
هو تنافس أميركي روسي على تقديم الهدايا لأنقرة لإرضائها وإبقائها إلى جانبهم، لكن الأتراك قلقون أيضا من أن تتحول هذه الهدايا إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار. وتركيا تعرف جيدا أنها أمام ورطة الخروج من الصفقتين بيد فارغة، إذا حصل التفاهم الأميركي الروسي بوساطة إسرائيل وبعض العواصم العربية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس