د. علي المر - خاص ترك برس
بمنطقه العنجهي المتغطرس، المعهود، يمارس الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ضغطًا متزايدًا على الإيرانيين للجلوس مذعنين إلى طاولة المفاوضات، التي سوف يحدد هو، بالطبع، مقاساتها، وما سيوضع عليها من ملفات، وما يرفع عنها، وإلى حد بعيد ما يصدر عنها من نتائج وقرارات!
قبل ثلاث سنوات، في عام 2015، وقَّعت إيران والدول الست الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، الطبعة الأولى مما سمي الاتفاق النووي. والذي كما توقعنا في مقال سابق نشرناه على هذا المنبر، أنه كان غطاء لتوافقات في الجوانب السياسية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وإيران من الجهة المقابلة.
ومع أن خمسًا من الدول الموقعة، والضامنة، هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، الذي يفترض أنه يحمي النظام والقانون الدولي؛ ومع أن الولايات المتحدة، كانت أكثر الدول إلحاحًا على توقيع الاتفاق (الراحل)؛ ومع أن وزير خارجيتها، جون كيري في حينه، كان هو عَرَّاب الاتفاق ومهندسه الأول: إلا أن هذه الدولة التي أصبحت، في عهد ترامب، لا تقيم وزنًا للأمم المتحدة ولا للقانون الدولي، سارعت إلى التنصل من التزاماتها، الأدبية والدولية، كدولة كبرى راعية للاتفاق. وأعلنت انسحابها منه من جانب واحد، في 8 أيار 2018.
وراحت تشن حربًا، نفسية ودعائية، مجلجلة، ضد إيران، بدعوى دعمها للإرهاب العالمي، وكأنها تكتشفها لأول مرة. وتحركت في الشهرين الأخيرين، بسرعة، لتحشد أساطيلها في الخليج، وبدت الحرب قاب قوسين أو أدنى، ثم عادت لتعلن أنها لا تنوي شن حرب على إيران، وإنما التوصل لاتفاق نووي جديد وحسب، ولسان حالها يقول "إن على إيران أن تأتي صاغرة للتفاوض وأن تقبل ما نمليه عليها". ما يثير تساؤلًا كبيرًا حول نوايا الإدارة الأمريكية من الاتفاق الذي تلح عليه أكثر من إلحاحها على الاتفاق السابق، إذا تجاوزنا التساؤل عن الطريقة الفجة، والأسلوب المهين، الذي يتبعه ترامب، وإدارته، مع دولة ذات سيادة وتاريخ مثل إيران: ولماذا تم التخلي عن الاتفاق الأول ولمَّـا يجف حبره بعد؟ وعن الأسباب الحقيقية لهذه الجلبة الإعلامية والحشود العسكرية!؟
لا شك أن العالم يشهد مخاضًا عسيرًا لولادة نظام عالمي جديد، يخلف النظام الثنائي القطبية الذي كان مهيمنًا على الأرض، قبل انهيار الكتلة الشيوعية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي كان من نتاج الحرب العالمية الثانية. وأن الولايات المتحدة ربما تشعر بأنها تملك من أوراق القوة ما تستطيع بها تثبيت هيمنتها على العالم لقرن قادم. غير أن الحقيقة الأخرى، التي لا مراء فيها أيضًا، هي أن هذه الدولة تعاني من أعراض الشيخوخة والهرم التي تعتري الامبراطوريات الكبرى في أواخر عهودها، وفي جميع مناحي الحياة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأن الإدارة الأمريكية، الحالية، والدولة العميقة، أو القوة الخفية، التي تمسك بخيوطها، وتحركها من وراء ستار، باتت تدرك أن عليها الاستفادة منها، كقوة عسكرية ضخمة، لفرض واقع عالمي جديد قبل أفولها وتفككها. وبالطبع لن يتحقق هذا الواقع الجديد المفترض إلا بقرع طبول الحرب، وإثارة النزاعات، وإشعال نيران الحروب هنا وهناك.
في القرن الماضي اشتعلت حربان عالميتان كبريان قتل فيهما عشرات الملايين وتسببتا في دمار كبير، وفي تغيير خريطة العالم الجيوسياسية والفكرية. وأيًا كانت الأسباب والمسببات، فلقد كان من نتائجهما المدمرة على منطقتنا العربية الإسلامية: هدم الدولة العثمانية، وتقسيم إرثها، بعد الحرب الأولى. وتعميق حالة الانفصام والقطرية، بين أجزائها، بعد الثانية. فأصبحت الشعوب التي تساوقت مع التقسيم، وكانت تتطلع إلى إنشاء كيانات سياسية كبرى على أساس قومي بدل التجمع على أساس الدين، متنازعة متصارعة فيما بينها. ودخلت في حالة من عدم الاستقرار والحروب: لا يُعرف كيف ستنتهي؟ ومتى ستنتهي؟ وكم ستخلف من دمار ومعاناة؟ وماذا سوف يُسفر عنها من نتائج؟
ولقد بدا واضحًا، منذ البداية، أن المستفيد الأكبر من كل ما جرى، ويجرى، هو الحركة الصهيونية العالمية، التي ظلت تسير في ظل المصالح الاقتصادية والأهداف الجيوسياسية للقوى المؤثرة، وتؤثر في سير الأحداث من وراء ستار. ونجحت إثر الحرب الأولى في استصدار وعد بلفور لإقامة ما سمي "وطن قومي لليهود" في فلسطين؛ وفي إعلان قيام ما سمي "دولة إسرائيل" (الصغرى) في فلسطين إثر الحرب الثانية. ويبدو لنا، في ظل ما آلت إليه المنطقة من غثائية وفوضى، أن هذه الحركة باتت تشعر، الآن، أنها أصبحت في وضع يمكنها استغلاله للتسريع بوضع المسمار الأخير في هيكل "دولة إسرائيل الكبرى"؛ وأنَ استعار الخلافات واشتعال الحروب، هنا وهناك، يخدمان مشروعها، كما خدمته الحربان الأولى والثانية في القرن الماضي مراحله الأولى.
في عالم، كعالمنا اليوم، يعيش على أكداس الأسلحة الاستراتيجية، وتحكمه توازنات الرعب العسكري، بين القوى اللاعبة، يُستبعد وقوع حرب عالمية شاملة على غرار الحربين السابقتين، ولكن حروبًا من نوع آخر، فكرية وثقافية واقتصادية...، وتدمير ممنهج يجري في المنطقة العربية والإسلامية منذ نحو 10 سنوات، وصولًا إلى حالة من الإنهاك المادي والمعنوي لدول وشعوب المنطقة تضطرها للتساوق مع المشروع الأمريكي-الصهيوني الجديد، كما تساوقت مع المشروع الغربي-الصهيوني في المرة السابقة وساندت مخططات تقسيم الدولة العثمانية وإنشاء إسرائيل الصغرى.
وما نؤمن به: أن الحملة الدعائية والنفسية العنيفة التي يشنها ترامب وإدارته على الدولة الإيرانية تهدف، في ظل غياب قوة سنية قادرة على إحداث التغيير الذي يريده، إلى دفع هذا البلد، تحت غطاء اتفاق نووي جديد، للتساوق مع المشروع الأمريكي-الصهيوني للقرن الحادي والعشرين، كما تساوق العرب مع سابقه، المشروع الغربي-الصهيوني، في القرن العشرين، وربما تكشف لنا الأيام (القادمة) وجود اتفاق سري مشابه لاتفاق سايكس-بيكو، بين بعض القوى الكبرى، جرى أو يجري الإعداد له، لتقسيم المنطقة، والهيمنة عليها للقرن القادم، ولتحقيق حلم اليهود في دولة كبرى، بين الفرات والنيل!
وفي المقابل سوف تُمنح إيران، في الاتفاق المزمع، مقابل تساوقها مع المخطط ودعمها له، مكاسب آنية جديدة في المنطقة: لإيقاع المزيد من الدمار؛ ووعودًا عريضة بإقامة مملكة شيعية شرقي المتوسط، ريثما يتحقق المشروع، ثم يتنكرون لها، كما تنكروا للعرب، الذين وُعدوا بمملكة عربية كبرى شرقي المتوسط في الحرب العالمية الأولى.
إن أوجه الشبه والمقابلة بين ما نتوقع أن الحركة الصهيونية العالمية تسعى لتحقيقه في هذه المرحلة مع ما حصل في القرن الماضي، وما يدفع ترامب للضغط على إيران، يتمثل في أهم النقاط التالية:
أولًا: التأسيس لإقامة دولة إسرائيل (الكبرى) في هذه المرة؛ كما تم التأسيس لإقامة دولة إسرائيل (الصغرى) في المرة السابقة.
ثانيًا: قيام (الولايات المتحدة وروسيا) في هذه المرة بدور (بريطانيا وفرنسا) في المرة السابقة؛ وإن بدتا مختلفتين ظاهريًا.
ثالثاً: التخفي وراء شخصية دينية شيعية (الولي الفقيه) هذه المرة؛ مقابل شخصية دينية سنية (شريف مكة) في المرة السابقة.
رابعًا: الوعد بإقامة (دولة شيعية كبرى) شرقي المتوسط، تتبع إيران هذه المرة؛ مقابل (دولة عربية سنية كبرى) تتبع الحجاز في المرة السابقة.
خامسًا: سوف يتم التنكر للوعد بإقامة الدولة الشيعية في هذه المرة؛ كما تنكروا لإقامة الدولة العربية السنية في المرة السابقة.
سادسًا: سوف يجري الانقلاب على إيران، والدويلات، أو الأذرع، التي ستنشئها في هذه المرة؛ كما انقلبوا على شريف مكة والدول التي أنشأها أبناؤه في المرة السابقة.
سابعًا: وقد يبقون دولة صغيرة وظيفية (شيعية) تحكمها الأسرة العلوية هي سوريا كما بقيت دولة صغيرة شرقي وادي الأردن، في المرة السابقة.
ثامنًا: تَوافُق الغاية الأخيرة للمشروع الأمريكي-الصهيوني بضرب قوة الإسلام (السني)، المتمثلة في تركيا في هذه المرة، وريثة الدولة العثمانية التي استهدفت في المرة السابقة.
تاسعًا: ضمان بقاء الدولة الصهيونية الكبرى باستمرار حالة الضعف في المنطقة، في هذه المرة. كما ضمنوا بقاء الدولة الصهيونية الصغرى، في المرة السابقة؛ بإنشاء كيانات تابعة متحاربة فيما بينها كما حصل في المرة السابقة.
وغني عن البيان: أن هذه المقاربة، والمقابلة، تتضمن تدمير كل قوة، وحتى كل حركة، صاعدة، إسلامية وحتى غير إسلامية، قد تتشكل وتشكل خطرًا على هذا المشروع، أو تتسبب في إعاقته أو تهديد مستقبله. ولقد بدا واضحًا أن تركيا هي المستهدف الأول، منذ بداية ما يسمى الحرب على الإرهاب في العقد الأخير.
وليست هذه نظرة متشائمة لحالة المنطقة العربية الإسلامية وإنما استقراءٌ للتاريخ، واسقاطٌ للماضي على الحاضر، واستشرافٌ للمستقبل: ما يراد له، وما يجب أن يكون عليه.
في عام 2008 اضطرت المقاومة العراقية (السنية) إدارة باراك أوباما للإعلان عن سحب القوات الأمريكية من العراق، عدا بضع مئات أبقوها، لحماية ما يسمى المنطقة الخضراء في بغداد التي تضم السفارة الأمريكية ومجمع الإدارات الحكومية العراقية.
وفي عام 2014 زحفت جموع العراقيين الرافضين للاحتلال نحو بغداد. وفجأة ظهرت حركة داعش، واستولت، فيما بدا أنه تسليم متعمد، على معسكرات الجيش العراقي وأسلحته وذخائره. وبسرعة فائقة فرضت هيمنتها بالقتل والرعب على نحو ثلث العراق. ثم لعجت، كالبرق، من مشارف بغداد، وشط العرب، إلى مدينة كوباني عين العرب! على الحدود التركية السورية. فيما فهم أنه استدراج لتركيا لدخول الحرب، كمصيدة لها واستنزافها. ما أثار موجة من التكهنات حول الجهات التي تقف وراء هذا التنظيم، والغايات التي أنشئ من أجلها. ولكن الشيء المؤكد أنه استغل، أبشع استغلال، لتشويه الإسلام ولشرعنة الحرب على بلاد المسلمين، خدمة للمشروع الصهيوني، المدمر للبشرية كلها، بدعوى الحرب على الإرهاب.
يعزز هذه النتيجة ظهور الزعيم المفترض للتنظيم الأسطوري، أبو بكر البغدادي، في 29 نيسان 2019، مهددًا تركيا، ملوحًا بلوحة، في يده، مكتوب عليه "ولاية تركيا". ما فهم منه أنه إشارة لتدشين مرحلة جديدة، من الحرب في المنطقة، تكون تركيا هي هدفها! وأن قرار الرئيس الأمريكي القضاء على داعش، والانسحاب من سوريا، قبل ذلك بخمسة أشهر فقط، في 19 كانون أول 2018، لم يكن سوى لعبة، غير محكمة الإعداد، لاستدراج تركيا التي كانت بدورها تعد لدخول منطقة شرقي الفرات في سوريا، لمطاردة ما تسميه التنظيمات الإرهابية. ثم تثور الآن الضجة ضد إيران وتُحرك الأساطيل والزحوف العسكرية الأمريكية صوب الخليج والمنطقة.
ومع أنها قد تكون كسابقاتها لعبة غير محكمة، إلا أن الهدف الأساسي لم يتغير. وما يبدو لنا أن منطقتنا ستظل تشهد المزيد من عدم الاستقرار، وبخاصة في ظل إدارة في البيت الأبيض، وشخص عديم الخبرة شديد الولاء للمشروع الصهيوني، مثل كوشنير. وأن المستفيد الأول والأكبر، هو الحركة الصهيونية العالمية، والمشروع الصهيوني. وسوف يحاولون جرَّ إيران بالحشود والضغط الاقتصادي والعسكري، للعب دور بارز في تحقيقه عبر المفاوضات واتفاق نووي جديد.
سوف يُمنّون إيران، في المفاوضات والاتفاق، بإنشاء إمبراطورية شيعية شرقي المتوسط والبحر الأحمر. وسوف يستمرون، بعد تحقق مشروعهم، في تغذية الصراعات، بين السنة والشيعة، وكل المكونات، حتى إذا شعروا بأن مصلحتهم تقتضي الانقلاب عليها: فسينقلبون بدعوى أنها تضطهد الشعوب السنية، والأقليات العرقية، وتقوض مصالحهم، وتهدد أمن ربيبتهم (إسرائيل) وحلفاءهم في المنطقة. وسيجدون قوى، من خارج إيران ومن داخلها، أشد كرهاً يومئذٍ لها، وأكثر تحفزاً ورغبة في التعاون معهم لتدميرها. وسوف لا يجني المذهبيون الشيعة هذه المرة إلا ما جنى القوميون العرب في المرة الأولى.
آن الأوان، وقبل فوات الأوان، أن نتعلم من دروس التاريخ، والتاريخ القريب جدًا. وليست ببعيد عنا الحربان العالميتان، الأولى والثانية ونتائجهما المدمرة ومشاهدهما المؤلمة، التي لا تزال ماثلة أمام أبصارنا، أو عالقة في أذهاننا، وليس أكثرها إيلامًا صورة شريف مكة، وهو يساق، مخفورًا بالجنود الذين أعدهم وجهزهم، إلى المنفى، بعيدًا عن الأرض التي كان يحلم أن ترفرف عليها راية دولة عربية كبرى، يتربع هو على عرشها، بعد تحريرها، وبدعم من المحتلين، من اضطهاد الأتراك المزعوم للعرب.
المأمول أن تعي الأمة خطورة الموقف. وأن يضع الولي الفقيه وعموم مراجع الشيعة وعامتهم، درس الولي الشريف والعرب نصب أعينهم. وأن يضعوا نهاية لهذا الانسياق، المحموم، وراء روايات تاريخية، عفا عليها الزمن، لأحداث مضى عليها مئات السنين. وألا يأذنوا بالتساوق مع المشروع الصهيوني الجديد-القديم، الذي يحاصر إيران والأمة، اليوم، ويهدد حاضرها ومستقبلها. وأن نتسلح، جميعًا، بالإيمان العميق، والقناعة التامة، أن حال العدو، ليس على ما يرام. ومهما عتا الصهاينة الجدد، في الإدارة الأمريكية، والقوة الخفية التي تحركها، فلن يفعلوا شيئًا سوى التهديد والوعيد والمزيد من المعاناة لشعوبنا. وما البديل غير جَرِّ العالم، إلى الهاوية؛ وأميركا نفسها، وروسيا إن تساوقت معا، إلى مصير بريطانيا وفرنسا في القرن الماضي؛ والأمم المتحدة، التي لم تفِ بالتزامها نحو الاتفاق النووي، وغيره، إلى مصير عصبة الأمم في المرة السابقة؛ وترامب نفسه مثل هتلر.
وفي كل الأحوال سوف تنكسر موجة الحروب الصليبية-الصهيونية الراهنة كما انكسرت سابقاتها. وسوف يبقى الإسلام، ويدخل كل بيت وينير كل قلب، بعز عزيز أو ذل ذليل، من عرب أو عجم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس