مروة عمر - خاص ترك برس
منذ أن وقعت تركيا عقدا مع روسيا لشراء منظومات صواريخ إس-400 الدفاعية في أيلول/ سبتمبر 2017، لم تنتهي التهديدات والضغوط التى مارستها واشنطن ضد أنقرة من أجل التخلي عن شراء منظومة الدفاع الروسية، كان آخرها أن واشنطن منحت تركيا مهلة تنتهي في 31 تموز/ يوليو للاختيار بين المنظومة الروسية أو المقاتلات الأمريكية إف-35، ومع وصول أول شحنة هذا الاسبوع من الصواريخ الروسية، تعلن تركيا إصرارها على اختيار السلاح الروسي.
الغضب الأمريكي من الصفقة مبررًا لأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية، جعلت من الصفقة قبل إتمامها مستحيلة نظريا، فشراء المنظومة الروسية يقرب تركيا من روسيا، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة خاصة أنها لا زالت تقلق من تمدد النفوذ الروسي الذي تعاظم بشكل كبير بعد قيادة بوتين لموسكو مطلع عام 2000. أيضًا اقتناء تركيا لهذه المنظومة قد يشجع دولًا أخرى للحصول عليها ما يؤدي إلى زيادة أسهم المنظومة الروسية في سوق التسليح على حساب المنظومة الأمريكية المنافسة لها "باتريوت"، وعسكريًا سيكون فى استطاعة روسيا فهم تقنية عمل الطائرات المقاتلة في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، بما فيها إف 35 الأمريكية، وبذلك تصبح الأنظمة الدفاعية الروسية فعّالة أمام المقاتلات الخاصة بدول الحلف، ما يعني منح روسيا مزيدًا من القوة فى حال تعرضها لأي حرب من دول الحلف.
فلماذا أصرت تركيا على اتمام تلك الصفقة رغم تكلفتها العالية من عقوبات عسكرية واقتصادية وأيضًا تداعيات محتملة بوضع عضويتها فى حلف الناتو على المحك؟
للجانب التركي أيضًا أسباب عديدة للإصرار على إتمام الصفقة، منذ سنوات طويلة، تسعى تركيا لامتلاك منظومة دفاع جوي متطورة، وعملت بالأساس من أجل الحصول على المنظومة التابعة لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكنها لم تتمكن من ذلك واتهمت الحلف بـ"المماطلة في تزويدها بمنظومة الباتريوت". وفي ذروة التهديدات الأمنية التي عايشتها تركيا مع تصاعد الأزمة في سوريا قبيل نحو 6 سنوات، قامت بعض الدول الأعضاء في حلف الناتو، مثل ألمانيا والولايات المتحدة، بسحب بطاريات صواريخ باتريوت من تركيا في آب/ أغسطس 2015. وقبل سنوات توصلت تركيا والصين إلى تفاهمات أولية من أجل شراء منظومة خاصة للدفاع الصاروخي، لكن حلف شمال الأطلسي اعترض بشدة على الصفقة بحجة أنه يصعب ربط المنظومة الصينية بالأنظمة الدفاعية التابعة للناتو، الأمر الذي أدى إلى إلغاء الصفقة. كما أثار تسلم إيران منظومة إس 300 من روسيا انزعاج تركيا والعديد من الدول في المنطقة، فحسمت تركيا قراراها بالعمل وفق ما تقتضيه مصالحها العليا دون الأخذ بعين الاعتبارات مواقف الناتو والسعي بشكل أسرع من أجل امتلاك منظومة أكثر تطورًا.
من جانب آخر، يمكن ربط الصفقة التركية الروسية بتصاعد حدة الغضب التركي تجاه الإدارة الأميركية، سواء لمواصلة تقديمها دعم عسكري لتنظيم "ي ب ك" الذي ترى تركيا أنه امتداد لتنظيم "بي كي كي"، وهو ما جعل النخبة الأمنية التركية "وفقا لرأي العديد من الخبراء السياسين" تنقلب أكثر فأكثر على واشنطن. ونتيجة لذلك ، تمكنت أنقرة من تكوين شراكات مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى ليصبح تحول الرئيس أردوغان شرقا بدعمٍ سياسيٍ ومؤسساتيٍ وموافقة النخبة الأمنية هو سياسة دولة وليس قرارا فرديا.
كما أن الثقة التركية في الولايات المتحدة تراجعت بشكل كبير منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا عام 2016، والتي ترى أنقرة يدًا فيها للمخابرات الأمريكية، بل وتحدثث أيضا تقارير إعلامية عن دور روسي في إفشال هذا الانقلاب، كان له أثر مباشر فى إتمام صفقة شراء المنظومة الروسية! بل حملت عملية تسليم المنظومة قبل أيام من الذكرى الثالثة للانقلاب الدموي الفاشل رسائل سياسية هامة للدول التى دعمت الانقلاب، خاصة مع هبوط طائرات الشحن الروسية التي تحمل "إس -400" في قاعدة "مرتد" العسكرية، والتي كانت مقرًا لإدارة المحاولة الانقلابية ليلة 15 تموز/ يوليو 2016، ومنها حلقت مقاتلات الانقلابيين لاستهداف البرلمان، والمجمع الرئاسي ومؤسسات حكومية أخرى.
روسيا والانقلاب الفاشل
مبكرا في عام 2004، حذر مسؤلون أمريكيون من أن بوتين يهدف إلى إبعاد تركيا عن حلفائها الغربيين عقب زيارة الرئيس بوتين لتركيا من العام نفسه حيث رافقه "ألكسندر دوجين" العقل الرئيسي لسياسته الخارجية. وكانت مهمة دوجين هي بناء شبكة نفوذ روسية وسط النخب التركية لسحب تركيا من الغرب، استنادا إلى فكرته الأساسية "الأوراسية" المتمثلة في تكوين إمبراطورية أوروبية آسيوية جديدة قائمة على فكرة العدو المشترك وهو حلف الأطلسي وإلى رفض القيم الليبرالية. كان صعود هذا التيار الجديد من الأوراسيين موازيا لتحول أردوغان عن الغرب بعد مظاهرات تقسيم 2013.
في أعقاب الانقلاب الفاشل في تركيا، انتشرت بعض الروايات التى تقول إن الاستخبارات الروسية قامت قبل ساعات من وقوع الانقلاب في تركيا بإبلاغ جهاز الاستخبارات التركي (MIT) باحتمال وقوع انقلاب في البلاد، وذلك بعدما اعترضت اتصالات بين وحدات الجيش التركي، ما أدى الى إفشاله في النهاية، ظهرت تلك الادعاءات مرة أخرى بتفاصيل مختلفة على لسان مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "دوجين" فى اجتماع ثنائي، عُقد في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 في موسكو، بينه وبين مستشار رئيس بلدية أنقرة، أحمد تونك الموالي للرئيس رجب طيب أردوغان، وخلال الاجتماع طرح دوجين الزعم المثير بأنه شخصيا ساعد في إنقاذ تركيا من انقلاب عسكري بإبلاغ السلطات التركية عن بعض "التحركات غير العادية" في الجيش في 14 من تموز/ يوليو 2016 قبل يوم واحد من محاولة الانقلاب. وقال دوجين أيضا إن التحول في سياسة أردوغان الخارجية نحو روسيا، الذي جاء قبل أسبوع واحد فقط من الانقلاب، كان هو السبب الرئيسي الذى دفع الدول الغربية إلى وعد الجيش بدعم الانقلاب. ونظرا لأن دوجين (الملقب بـ"راسبوتين بوتين") ليس محللا سياسيا عاديا، فقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز ما قاله لمستشار رئيس بلدية انقرة في تقرير لها عن أسرار الانقلاب الفاشل بتاريخ 13 يوليو 2017.
تحول جيوسياسى مفاجئ
في الأيام التي سبقت محاولة الانقلاب، كان ألكساندر دوجين في أنقرة، شارك في عدد من المقابلات التلفزيونيّة داعمًا لقرار الرئيس التركي إصلاح العلاقات مع روسيا بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية فى تشرين الثاني/ نوفمبر2015. قال دوجين "إن نفس القوى تريد تدمير كل من روسيا وتركيا، والرئيس أردوغان فهم الوضع الآن، إن البلدين يطلقان الآن نظامًا جديدًا للعلاقات، ليس فقط استعادة العلاقات القديمة، بل يتجهان نحو تحالف استراتيجي." وكانت آخر تلك المقابلات على محطّة تي آر تي، وقد انتهت المقابلة قبل ساعتين ونصف بالضبط من احتلال منظّمي الانقلاب للمحطّة. كما استقبلت الصحافة الروسية ببعض الارتياح انتقادات أردوغان التى تركزت على سلاح الجو التركي. كانت القوات الجوية بالطبع، هي المسؤولة عن إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، جاء تطهير أردوغان للقوات الجوية على وجه الخصوص، والجيش التركي بشكل عام، ليدمر أحد المعاقل المتبقية من النخبة الكمالية القديمة في تركيا، التي كانت في كثير من الأحيان ملتزمة تماما بحلف الناتو وتميل إلى النظر إلى روسيا على أنها تهديد للمصالح التركية. يقول جيفري مانكوف الخبير ببرنامج روسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن "من غير المرجح أن يكون للجيش التركي الذي تم تطهيره والذي أمتلأ بالمخلصين للرئيس أردوغان الالتزام الشديد نفسه تجاه حلف الأطلسي أو يحملون نفس مشاعر العداء تجاه روسيا."
وصف الخبراء محاولة الانقلاب بأنها حصرت خيارات أردوغان مع شركائه الغربيين و أن مناصري "الأوراسية" هم المستفيد الأكبر من المحاولة الانقلابية ومن إجراءات التطهير التي أعقبتها. بل أن القمة التركية الروسية التي عقدت في 9 آب/ أغسطس 2016 في مدينة بطرسبورج، كانت نقطة التحول في العلاقات بين البلدين، والتي تحولت إلى تعاون عسكري واستخباراتي بشأن الملف السوري، أكثر من كونه تعاونا اقتصاديا معتادا، ولم تتأثر تلك الشراكة التركية الروسية بحادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا في كانون الثاني/ ديسمبر 2016 التى وصفها الرئيس بوتين بأنها محاولة لتخريب العلاقات التركية-الروسية. وقد صرّح دوجين بأن "هذه آخر محاولة للإدارة الأميركيّة لقلقلة العلاقات الروسيّة مع تركيا."
وقبيل الإعلان عن الاتفاق على صفقة إس-400، سرد الصحفي مراد يتكين بجريدة "حرييت" التركية، واقعة صدور أوامر اعتقال أمريكية ضد 15 تركيًا، منهم 12 من فريق أردوغان الأمني، المتورطين في ضرب المتظاهرين أمام مقر إقامة السفير التركي في واشنطن خلال زيارة أردوغان في أيار/ مايو 2017. عبر أردوغان عن غضبه من قرار المحكمة، قائلًا إن أحد الأشخاص المذكورين في لائحة الاتهام لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، مما يدل على أن مذكرة الاعتقال كانت دليلًا إضافيًا على "إجراء قضائي عدائي" ضد أردوغان وتركيا، وخطوة جديدة على طريق تدهور العلاقات التركية الأمريكية.
وفي ظل تنامي العلاقات مع موسكو، جاء إعلان الرئيس التركي أردوغان في أيلول/ سبتمبر 2017، عن توقيع اتفاق مع روسيا لتوريد منظومة الدفاع الصاروخي المتطورة إس400 صدمة لكثيرين من الذين لم يتوقعوا إتمام الصفقة، البعض قال إنها تعني تحول تركيا، ثاني أكبر دولة فى حلف الناتو، رسميا لتكون حليفة لروسيا، وهو ما دفع المحلل السياسي الإسرائيلي، إلداد باك، إلى وصف التوقيع عليها بـ"أقوى زلزال سياسي على المستوى العالمي، وما يزال من الصعب قياس عواقبه."
المكاسب التركية المباشرة
لا تقتصر المكاسب المباشرة لتركيا من الصفقة على تأكيد سيادتها وتفردها بتحديد سياساتها الدفاعية بعد تبعية تجاوزت نصف قرن. فقد شهدت تركيا الإطاحة برئيس حكومتها مندريس وإعدامه شنقًا من خلال انقلاب عسكري قبيل بضعة أيام من اجتماعات كانت مقررة مع مسؤولين روس، فالآن أصبح المنظور الاستقلالي لتركيا في إطار الأقوال والافعال أيضا. فحسب آراء المختصين في الشأن العسكري، ستمتلك تركيا لأول مرة نظاما صاروخيا قادرا على اصطياد الصواريخ البالستية، وستتفوق بذلك على جيرانها في هذا المجال خاصة اذا تمّ نشر المنظومة، بحيث يمكنها مراقبة أجواء منطقة إيجة، فإنّ تركيا ستحقق تفوقا جويا ملحوظا، يمكنها من حل الخلافات القائمة بين تركيا واليونان في بحر إيجة بما يخدم مصالحها.
هذا كله يساعد على تفسير سبب إصرار أنقرة على شراء منظومة الصواريخ الروسية على الرغم من العقوبات الأمريكية المتوقعة، لكن آرون شتاين، مدير برنامج الشرق الأوسط بمعهد أبحاث السياسة الخارجية، يقول إن هذا النهج لا يعني التقارب مع موسكو على حساب واشنطن، لكنه يعني أن تركيا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كحليف لا غنى عنه، فتركيا تريد استمرار التعاون مع روسيا التي باتت اللأعب الأهم في الأزمة السورية، وهذه الصفقة تقرب إلى حد كبير في وجهات النظر بين موسكو وأنقرة تجاه هذا الملف الهام بالنسبة لتركيا. فالرئيس التركي أردوغان رفض الخضوع لمطالب الولايات المتحدة وتهديداتها فيما يتعلق بصفقة شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسي إس 400، وهو بذلك، كما يقول شتاين، قام باختيار سياسي، يراهن به على أن السياسة الخارجية المتوازنة بشكل محايد ستخدم مصالح تركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس