د. وسيم بكراكي - خاص ترك برس
عن استقالة رئيس الوزارء السابق البروفسور أحمد داود أوغلو من حزب العدالة والتنمية وحول تشبيه عملية استقالته ومساعيه لتأسيس حزب جديد بمرحلة تأسيس الرئيس رجب طيب أردوغان حزبه بشكل مخالف لرغبة المرحوم مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا البروفسور نجم الدين أربكان أقول مجيبا ربما على للتساؤل: هل يعيد التاريخ نفسه؟ وأقول:
هناك فروقات كبيرة بين الشخصين أولا وكيفية ترك كل واحد ثانيا...
فإن استعرضنا مثلا مرحلة تأسيس الرئيس أردوغان لحزب العدالة والتنمية نجد:
1. هي مرحلة أتت بعد أن دخل الحبس مظلوما وهو رئيس لبلدية إسطنبول منتخبًا من الشعب وبعد أن حقق في هذه المدينة إنجازات لم يتمكن أحد قبله من القيام بها. فهو عزل من منصبه ظلما وهو في أشد المراحل عطاء وإنجازات...
2. هو لم يترك حزب الرفاه ولا الفضيلة عندما كانت أحزابا قائمة. فهذه الأحزاب تم حلها بقرارات من المحكمة العليا وأصبحت أحزابا محظورة. وعندما قرر البروفسور نجم الدين أربكان تأسيس حزب جديد للمرة الرابعة في تاريخه بنفس الطريقة التي جربت ثلاث مرات سابقة جاء رفض أردوغان ومعه مجموعة من رفاقه (وليس منفردا) هذا الأمر وقرروا البقاء خارج التشكيلة الجديدة والعمل على تأسيس حزب بفكر جديد يكون أكثر قدرة على العمل بأسلوب جديد لم يتعود عليه التيار الحاكم للبلد واستطاع بذلك كسر سلسلة متكررة تصل كل مرة إلى نفس النتيجة رغم وجود الدعم الشعبي لها. فكانت فكرة حزب العدالة والتنمية.
3. لم يقدم رجب طيب أردوغان على تأسيس الحزب منفردا بل شاركه في ذلك الأمر قيادات كبيرة فاعلة ومؤثرة في تلك الفترة أمثال بولنت أريتنش وعبد الله غُل وكان هؤلاء الثلاثة يعرفون بأنهم الأعمدة الثلاث التي تشاركت هذا التغيير إضافة لقيادات أخرى كانت قوية وإن لم تظهر بنفس الشكل التي ظهر فيه هذا الثلاثي المتين يومها... وكل متابع للشأن التركي يذكر كيف حصل كل من هؤلاء على نصيبه من القيادة سواء عبر رئاسة الوزارء ومن ثم رئاسة الجمهورية التي حصل عليها الرئيس عبد الله غُل. ورئاسة المجلس النيابي التي حصل عليها بولنت أرنيتش هو الآخر... واستمر هذا التحالف بشكل قوي جدا يضرب به المثل إلى أن بدأت التغيير في وجهات النظر ورفض أردوغان التمديد لعبد الله غُل مدة رئاسية جديدة ليتمكن هو من قيادة البلاد بكونه القائد الأول الفعلي للحزب وما كان لذلك من سلبية لدى عبد الله غُل الذي اضطر لترك الحياة السياسية قبل الأوان بنظره ثم ظهور اختلافات بينهما حول العمليات التي قادها التيار الموازي لتشويه سمعة أردوغان عبر القضايا التي تم تسليمها إلى الحاكم زكريا أوز وموقف عبد الله غُل الرافض للتدخل من موقع الرئاسة في وجهة نظر قد تكون محقة برأيه وتقلب ظهر البعير من وجهة نظر أردوغان، وصولا الى شرخ النظرة الى التيار الموازي وتوسع رقعة الخلاف بينهما وصولا إلى الانقلاب الغاشم يوم 15 تموز/ يوليو واختلاف الآراء الجذري بين عبد الله غُل وأردوغان تحديدا حول عملية التعامل مع الأمر بعد انتهاء الانقلاب. وكل هذا قد يكون مجرد اختلاف وجهات نظر قد لا يفسد للود قضية. ولكن القطيعة النهائية تمثلت بموافقة عبد الله غُل على الترشح مرة جديدة لرئاسة الجمهورية ضد رفيق دربه بشرط الحصول على تأييد جميع الأحزاب المعارضة وهو ما لم يتحقق بسبب رفض ميرال أكشينير زعيمة حزب "الجيد" القاطع لهذا الترشيح.
4. كاريزما أردوغان وخطابه المتميز وقدرته على تحجيم الخصم بأسلوب الزعيم الذي نشأ في شوارع "قاسم باشا" ومن فئة من الشعب العادي الفقير ولهذا فإنه كان ولا يزال يحسن التعامل مع الشعب.
بينما بالنظر إلى حركة البروفسور أحمد داود أوغلو فإننا نجد عوامل متعددة أخرى تضعف هذا التحرك بشكل كبير وتبعده تماما عن مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، ومن أهم هذه النقاط:
1. لم يتعرض داود أوغلو لأي نوع من ظلم الدولة الذي تعرض له أردوغان فهو اليوم رئيس وزراء سابق يعرف أنه حاول خلال فترة رئاسته أن يطيح بقائده وسلطته على الحزب والدولة. وهو الأمر الذي تنبه له أردوغان يومها وأدى بشكل مباشر إلى تحييده وتعيين رئيس وزراء جديد هو بن علي يلديريم... فهو منذ ذلك الوقت بمثابة رمز قيادي أنهى زعامته المستقبلية كخلف لأردوغان هو الأكبر حظا بين منافسيه عبر استعجاله للحصول على هذه السلطة التي كانت لا بد أن تصل إليه يوما بكونه "الهوجا" الذي يخط سياسة الحزب والدولة الخارجية بكل نجاح وصاحب فكرة تصفير الخلافات مع دول الجوار. هذه المحاولة الانقلابية في داخل الحزب على زعامة أردوغان باءت بالفشل وانتهى من خلالها فعليا دور هذا الرجل وبقي لعدة سنوات غائبا عن الساحة إلا من تصريح هنا ورأي هناك...
2. الاختلاف الجوهري الثاني هو أن داود أوغلو رغم كل ما يمتلكه من تاريخ لم يتمكن من إظهار شجاعة حتى في أسلوب الاستقالة التي كان من المفترض أن تكون مباشرة وليس بعد إحالته إلى مجلس التأديب مرفقا بتوصية بالفصل من عضوية الحزب... إذن كانت استقالة لا تليق بتاريخ هذا الرجل وشتان وبين هذه الاستقالة وبين دخول أردوغان السجن بكل عزيمة وشجاعة...
3. لم يترك الهوجا حزبه بعد أن تم إغلاقه بل استخدم وسيلة النقد الذاتي للحزب بشكل مؤذ من الداخل وعلى العلن وما رافق ذلك من أحاديث سمع بها جميع أبناء الشعب عن نيته بتأسيس حزب جديد بل وتجهيزه حتى لمقر هذا الحزب. فكيف يكون الخطاب خطاب نقد ذاتي وأنت تؤسس بشكل فعلي حزبا جديدا ستغرد فيه خارج هذا السرب. إذن لقد استخدم أحمد داود أوغلو أسلوب العضو المشاغب الذي يفعل كل ما هو ممكن ليصل إلى نتيجة واضحة: الطرد وحالة التظلم المفتعلة ونظرية حاولت فتم طردي ولهذا فأنا مجبر على السير دفاعا عما أؤمن به. ولو خرج من بداية الطريق لكان ربما سيشكل فعلا حالة تسبب قلقا كبيرا لدى قيادات حزب العدالة والتنمية وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان... ولكن يبدو أنه فضل الأسلوب الآخر. ولا أدري إلى أي مدى سيقبل الشعب التركي بمثل هذه الأساليب.
4. في الوقت الذي قلنا فيه إن أردوغان خرج من الشعب الكادح ومن بين أزقة الكفاح فإن داود أوغلو هو شخصية أكاديمية هادئة ولا تتمتع بالكاريزما التي يمتلكها الرئيس. وهو من هذه الناحية سيخرج بحزب يفتقر إلى الظهور القوي أمام خصم مفترض له من الحنكة ومن الخطابة والتاريخ الشيء الكثير وبخاصة ما أصبح بنظر الكثيرين أسطوريا عندما خرج إلى الشعب عبر شاشة الهاتف ليضع حياته في وجه انقلاب لم يكن ليفشل لولا هذه الكاريزما وهذه البطولة...
5. ما بين تاريخ وإنجازات داود أوغلو وأردوغان فرق بين الثريا والثرى...
شخصيا أرى اختلافات كثيرة بين الحالتين وما عرضته هو لمحة سريعة فقط بنقاط قوة لدى أردوغان ونقاط ضعف لدى داود أوغلو لا يمكن أن تجعل من هذا الأخير حالة "تاريخ يعيد نفسه"...
ولكن برأيي الشخصي أيضا أرى أن النقطة الأهم التي تمتلك تأثيرا كبيرا لدى الشعب التركي هي أن أردوغان بقي حتى آخر يوم من حياة أربكان يكن له كل الاحترام والمحبة رغم كل الانتقادات والاتهامات بالخيانة الموجهة إليه من قبل أستاذه... فهو اختار تغيير الطريق ولكنه لم يتكلم يوما بالسوء عن قائده السابق ولا عن فكر الملة الذي تربى عليه... بينما نجد اليوم داود أوغلو يتجرأ بكل شيء بل ويهدد قائده ومن داخل الحزب قبل أن يخرج منه...
كنقطة أخيرة، وبالتحديد لتعبير ولفظ "التخوين"... فأنا لم أكن يوم خرج أردوغان أقبل بهذا التعبير له ولا أجده اليوم حتى اللحظة ممكنا ضد شخص داود أوغلو. فالخروج عن المألوف ليس بالضرورة خيانة... هو فكر قد ينجح ويصيب وقد يخسر ويضيع... ولكن، إن كان هذا الطريق سيعرض البلاد لعودة حكم اليسار فعندها نعم وبلا تردد سنقولها جميعا: خائن. إذن لكي نتحدث عن خيانة ما زال أمامنا الكثير. والمواقف هي التي ستحكم مستقبلا نتيجة هذا التحرك... وإذا رأينا مستقبلا داود أوغلو يتحالف مع اليسار ضد حزب العدالة عندها بالتأكيد يمكن التحدث عن الخيانة... ليس خيانة حزبه السابق بل خيانة مبادئه هو نفسه التي أحببناه لأجلها...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس