ياسين أقطاي - يني شفق
لقد حدث ما كان يجب أن يحدث، وأما طريقة حدوثه فتثبت إلى أي مدى تبدو روعة وصواب ما حدث.
إن هذه الواقعة تؤكد أحقية السياسة التي تنتهجها تركيا منذ البداية؛ إذ كانت أنقرة تقول إن تلك المنظمة الإرهابية التي تدعمها الولايات المتحدة علانية على الأرض وتصادق دول الاتحاد الأوروبي على تحركاتها تشكل تهديدا يحدق بها. كما كانت تقول إن هذه المنظمة الإرهابية والدعم الذي تتلقاه من بعض الدول، وفي مقدمتها دول أعضاء في حلف الناتو، لا تهددها هي وحسب، وإنما تهدد كذلك الولايات المتحدة وأوروبا نفسها.
وربما لا يكون هذا التهديد يتمثل في توجيه عناصر المنظمة أسلحتهم باتجاه هذه الدول على المدى القريب، بل يتمثل في التضحية بالمبادئ التي قامت عليها تلك البلدان واتساقها معها في سبيل حماية منظمة إرهابية. فالمهمة التي قامت بها تلك البلدان خلال عملية مكافحة داعش وبي كا كا، اللتين تعتبران منظمتين ارهابيتين حتى في أعراف هذه الدول وتصنيفاتها، كانت تدمر صلاحية هذا الاتساق تماما.
كنا قد كتبنا يوم 10 أغسطس/آب الماضي أن تركيا تعرض – في الواقع - على لولايات المتحدة فرصة الرجوع عن أخطائها بما تفعله وتنتهجه من سياسات في شرق الفرات؛ إذ كانت واشنطن ترتكب خطأ علنا في تلك المنطقة. كان يمكن غض الطرف عن دعمها للإرهاب ضمن النظام السياسي الحالي، فهي قادرة على توجيه دفة الرأي العام العالمي كما تشاء بفضل وسائل الإعلام التي تسيطر عليها حول العالم لتصنع من الإرهابيين أبطالا أحرارا، غير أن تأثير القوة والعمر الافتراضي للرأي العام الذي أفرزته صناعة الإعلام هذه لا يستمر طويلا كما ظنوا، ففي نهاية المطاف سيسألهم الشعب الأمريكي: ماذا نفعل في سوريا؟
أرى من وجهة نظري أن ترامب يعتبر من أفضل من يستمعون إلى آراء الشعب الأمريكي. فبالرغم من صفقة القرن وسياسته المناهضة للمهاجرين ومواقفه المعادية للإسلام، فإنه سياسي يستمع بواقعية لآراء شعبه الحقيقية من أجل تمثيله. فحتى أن آراءه في مثل هذه القضايا هي – للأسف - آراء المواطن الأمريكي العادي، فالرجل كان يعتبر منذ البداية أن الوجود الأمريكي في سوريا والتعاون مع منظمة إرهابية مثل بي كا كا كان خطأ، لكنه عجز عن إقناع طبقة البيروقراطيين في بلده بذلك.
ولماذا يصرّ البيروقراطيون الأمريكيون ومؤسسات مثل البنتاغون والسي آي ايه على انتهاج سياسية غير منطقية كهذه لن تحقق أي مصلحة للولايات المتحدة بل ستجعلها تخسر المال والجاه على المدى الطويل؟ فهذا يعتبر أمرا جدليا يستحق النقاش. إن سبب التواجد الأمريكي في سوريا أو العراق يخدم فقط إسرائيل وحلفائها. فإلى أي مدى يمكن أن يتحمل الشعب الأمريكي أن يرى دولة كبرى كالولايات المتحدة تظهر وكأنها كرّست وجودها لصالح دولة تنشر الفتن كإسرائيل؟ إن أمن إسرائيل العدواني الذي يضر الجميع يكلف الولايات المتحدة ثمنا باهظا، وهو ما جعل الشعب الأمريكي يشكل الآن رأيا عاما قويا في هذا الاتجاه، ومستحيل أن يكون ترامب لا يرى كل هذا.
لا شك أن هناك من يصور الاتفاق الذي توصلت إليه واشنطن مع أنقرة على أنه مكسب لتركيا فقط ويشكل خسارة بالنسبة للولايات المتحدة، لكن عندما ننظر للأمر من هذه الزاوية سنرى أن ذلك ليس صحيحا. إن جميع مطالب تركيا قد استجيب لها، لكن هذه المطالب كانت كذلك تصب في مصلحة الولايات المتحدة؛ إذ إن مكاسب أنقرة في هذا السياق لا تعني خسارة واشنطن.
ولنقولها مجددا، لقد قدمت تركيا فرصة للولايات المتحدة لترجع عن خطأها، وهو ما فعلته واشنطن بالفعل لتستغل هذه الفرصة بذلك الاتفاق الذي توصلت إليه مع أنقرة.
ربما كان من الصعب أن تدرك الولايات المتحدة أن هذا الأمر يصب في مصلحتها، فكان على تركيا التحرك لإظهار قوتها وجديتها، وهو ما فعلته على الأرض ليرى ذلك ليس الولايات المتحدة وحسب، بل جميع الدول الأخرى.
ربما كان هناك من اعتبر هذا هذه اللحظة أن التصريحات التي أطلقتها تركيا هي عبارة عن أوهام يجب ألا يلقي أحد لها بالا. لكن من الآن فصاعدا سيكون لزاما على الجميع أن يستشعروا ثقل ما تقوله تركيا؛ إذ إننا انتقلنا إلى عالم مختلف تماما بعدما أخرجت عملية نبع السلام هذا الاتفاق إلى النور، عالم يقدِّر فيه الجميع حجم تركيا وثقلها كما يجب في كل القضايا.
لقد أنقذ هذا الاتفاق، بشكله هذا، كذلك حلف شمال الأطلسي (ناتو). فتركيا، إحدى الدول الأعضاء بالحلف، كانت تجد صعوبات جمة في شرح هذا التهديد الذي تشعر به للآخرين حتى يومنا هذا، وكانت الدول الأخرى هي التي تدعم هذا التهديد الذي كان يستهدف أمن تركيا بشكل مباشر. وهو ما كان يعني، بغض النظر عن الجهة التي ستنظرون منها للموضوع، النهاية الفعلية للحلف. بيد أن إصرار تركيا وتحركها بمبدأ "كلنا واحد" ذكّر الجميع بتعهدات حماية أراضي الدول الأعضاء في الحلف وشعوبها إزاء كل التهديدات (المادة 3 من نص الاتفاق). ومع فهم الولايات المتحدة للأمر أصبحت سائر الدول الأعضاء في الحلف هي الأخرى مدركة للمخاوف الأمنية المشروعة التي تحملها تركيا فيما يتعلق بحدودها الجنوبية، وهي المخاوف التي لطالما عجزوا عن فهمها حتى يومنا هذا (المادة 1 من الاتفاق).
لقد أظهرت تركيا قوتها على الأرض، ثم حصدت ما أرادت من مكاسب على طاولة المفاوضات، وهو ما نسميه نصرا وفتحا مبينا.
نحمد الله حتى يبلغ الحمد منتهاه أن منّ علينا بهذا الفتح، كما نتقدم بخالص الشكر والتقدير للقائد الأعلى الرئيس أردوغان الذي أدار هذا الفتح بذكائه وحكمته وزعامته القوية.
لم يكن النصر لتركيا، بل كان نصرا أشرق كالشمس على عالم المظلومين في كل مكان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس