د. علي حسين باكير - العرب القطرية
قبل ستة أشهر فقط، وقّعت كل من تركيا وحكومة الوفاق الوطني الليبية، المعترف بها دولياً، اتفاقين استراتيجيين، أحدهما للتعاون الدفاعي والأمني، والآخر لترسيم الحدود البحرية بين البلدين في شرق البحر المتوسط. سمحت هذه الخطوة لأنقرة بلعب دور فاعل في الميدان الليبي لأول مرة منذ حوالي مئة عام، في وقتٍ حساسٍ للغاية، كانت فيه حكومة فائز السراج تحت ضغط العملية الانقلابية التي يقودها خليفة حفتر، بدعم عسكري منقطع النظير من الإمارات ومصر وروسيا وفرنسا، منذ أبريل من عام ٢٠١٩.
وتشير التطورات العسكرية على الساحة الليبية، والخسائر الجسيمة التي مُنيت بها ميليشيات حفتر مؤخراً، غرب ووسط البلاد، إلى أن تركيا استطاعت تغيير موازين القوى خلال فترة وجيزة لصالح حكومة الوفاق الوطني. وتحظى حكومة السرّاج الآن بالمبادرة بعد انهيار معنويات القطع العسكرية التابعة لحفتر، وهو ما يعزز من شرعيتها الدولية، ويسرّع من بسط سلطتها، ويحرّر جزءاً من قواتها للدفع بها شرق البلاد، حيث المعقل الرئيسي للانقلاب.
تسلّط هذه الأحداث الضوء مجدداً على دور تركيا الإقليمي الصاعد، لا سيما فيما يتعلق باستراتيجية الدفاع المتقدم التي تعتمدها منذ عام ٢٠١٤، وتتضمن إقامة تحالفات عسكرية مع عدد من الدول الإقليمية، ونشراً للقواعد العسكرية المتقدمة في الخليج والقرن الأفريقي والبحر الأحمر والبحر المتوسط، وإطلاقاً للعمليات العسكرية التي تهدف إلى محاربة الإرهاب، وتحقيق الاستقرار، وتأمين مصالحها الحيوية في محيطها الإقليمي.
وتتابع العديد من القوى الدولية والإقليمية التحركات التركية على هذا المستوى من كثب، نظراً لما تتركه من انعكاسات على خارطة توزيع القوى والتحالفات في المنطقة، فضلاً عن حساباتها السياسية المتعلقة بالعلاقة التي تربط بينها وبين أطراف أخرى.
ومن المعلوم أن العديد من الدول العربية باتت تخضع بعد الأزمة الخليجية عام ٢٠١٧ إلى الابتزاز من بعض القوى الإقليمية، نظراً لافتقادها إلى البدائل السياسية.
اليوم، تراقب مثل هذه الدول الدور التركي في المنطقة، ورسالة أنقرة إليها انطلاقاً من ليبيا أن تركيا شريك قوي، ومتزن سياسياً، وملتزم بتحالفاته، وقادر على تغيير المعادلة حتى لو كانت دول مثل روسيا وفرنسا ومصر والإمارات هي من تقف في الصف الآخر. تتعدى أهمية هذه الرسالة المحيط الإقليمي إلى الدولي، فالجميع بات يدرك أن تركيا هي الرقم الأصعب في الشرق الأوسط، ولا يمكن تجاوزها بسهولة.
لكن دور أنقرة هذا قد لا يخلو من التحديات والمخاطر أيضاً. وبخلاف ما يعتقده البعض، فإن التحدي الأكبر قد لا ينبع من الخارج بقدر ما يكون من الداخل، وهو لا يرتبط بالشق العسكري بقدر ما يرتبط بالعنصر الاقتصادي.
بوصفها ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، وباعتمادها المتزايد على قدراتها التسليحية الوطنية، تستطيع أنقرة التغلب على التحديات والمخاطر العسكرية، لكن دورها هذا يحتاج إلى أن يكون مدعوماً باقتصادٍ قوي.
تعاني أنقرة منذ عام ٢٠١٨ من حالة عدم توازن اقتصادي تُهدد بتقويض دورها ورسالتها الإقليمية الدولية. ولعل هذا ما يراهن عليه خصوم تركيا اليوم، في ظل هزائمهم المتكررة سياسياً وعسكرياً، خلال السنوات الخمس الماضية على وجه التحديد.
على أن التحدي الاقتصادي ليس حكراً على تركيا فقط، فغيرها ممن يعتمد بشكل أساسي، وربما أوحد، على واردات النفط يعاني هو الآخر من عُسرة غير مسبوقة ستدفعه حتماً إلى التراجع إقليمياً، وهو ما يعيد المبادرة مجدداً إلى الجانب التركي. ليبيا ستكون على الأرجح المكان الأمثل لاختبار التغير في موازين القوى والتحالفات على المستوى الإقليمي خلال المرحلة المقبلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس