ربيع الحافظ - خاص ترك برس
إعادة آية صوفيا إلى مسجد أعادت تحريك ملفات مضى عليها قرون على صلة مباشرة بتكوين مجتمعاتنا وما تمر به اليوم من مخاضات متعددة.
كانت آيا صوفيا المعقل الأخير الذي اعتصم فيه أهل القسطنطينية وذروة المعركة بين امبراطوريتين في زمن كانت ثقافة استئصال الغالب للمغلوب هي ثقافة العصر، وكان والسؤال الذي يسأله المعتصمون (لمحمد الفاتح) داخل أنفسهم: ما أنت فاعل بنا؟ ولا إجابة يجدونها غير الاستئصال. كانت أقلام التاريخ متأهبة لتخليد الحدث الذي سيلي تلك اللحظة الحاسمة.
إعلان السلطان محمد الفاتح العفو العام وطمأنة المعتصمين على أرواحهم أعاد مشهد "إذهبوا أنتم الطلقاء" الذي كان انعطافة في التاريخ في موضع آخر ولكن مع فوارق. قرار الرسول ﷺ العفو عن أهل مكة خلا من عنصر المفاجأة فهو الأخ الكريم ابن الأخ الكريم كما قالت له قريش والصادق الأمين الذي عرفته، مع ذلك أزاح القرار عقبة نفسية وبعث برسالة طمأنينة إلى قبائل الجزيرة العربية التي دخلت على إثرها في الإسلام أفواجاً.
طلقاء القسطنيطنية لم يكونوا من عرق الذين تغلبوا عليهم لتنالهم شفقتهم ولم يكن العفو العام مقابل دخولهم في الإسلام، ثم أن ميدان المعركة كانوعند نقطة تماس القارات والتقاء الحضارات وليس موضعا معزولا جغرافيا، مجموعة عوامل جعلت من أخبار العفو العام المنبثقة من داخل آيا صوفيا رسالة اجتماعية بلغت أطراف المعمورة وجعلت من المكان حجر زاوية في نظام اجتماعي جديد ستكون فيه الدولة (وليس حسن النوايا عند الأفراد) ضامنة لحقوق أتباع الأديان الأخرى. لم يدخل سكان القسطنيطينية في الإسلام (بشكل عام) لكنهم انتظموا في نظامه الاجتماعي أفواجاً.
نظام مجتمعي جديد
أفضى مشهد آيا صوفيا إلى فتح اجتماعي حينما قرر السلطان الفاتح أن تكون عاصمة مملكته (استانبول) مجتمعا تتعايش فيه الأديان والاعراق وتحتضن اقتصاداً تساهم فيه كفاءات الأمم أو ما يعرف اليوم (cosmopolitan) ووجه دعوات الى أهل الأرض لاسيما الفنانين والتجار والنحاتين والأدباء للقدوم والعيش والعمل في عاصمته وأعفى المهاجرين من الضرائب بشكل مؤقت ووفر السكن مجانياً فتسارعت الهجرة إلى المدينة التي اجتمعت فيها المساجد والكنائس والمعابد اليهودية والأعمال التجارية وتضاعف عدد سكان استانبول ستة مرات من 50 ألف عند الفتح إلى 300 ألف في غضون قرن. كان مجتمع استانبول لوحة اجتماعية غير مألوفة في القرن الخامس عشر.
رؤية جاهزة
كانت الرؤية الاجتماعية لدمج مجتمعي امبراطوريتين جاهزة وغير مترددة ولم تتطلب نقاشات مطولة بين السلطان ومستشاريه فالرؤية مستحضرة من حضارة الإسلام ومستعارة من حواضره السابقة وآخرها الأندلس ولم تكن رؤية مزاجية.
يقول المستشرق البريطاني توماس آرنولد: "لم تكد حاضرة الامبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453م حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية والكنيسة المسيحية بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني (الفاتح) بعد سقوط القسطنطينية وإعادة إقرار النظام فيها أن ضمن ولاء المسيحيين بأن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية فحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا ومنح البطريارك الجديد مرسوماً يضمن له ولاتباعه ولمرؤوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق".
هكذا بدا مجتمع استانبول
مدينة قسمت إلى 13 قسم رئيسي تتكون من أحياء ثانوية يشكل الجامع (أو الكنيسة أو الكنيس اليهودي) مركزها ويمثل الحي كياناً للهوية المشتركة لساكنيه وله مبعوث خاص من قاضي إستانبول يدعى النائب، وللحي إمام هو مديره الإداري في حين يقوم القس أو الحاخام في الأحياء الأخرى بمهمة الاتصال مع السلطات الرسمية، وبالإضافة إلى مهمته في الحفاظ على التضامن الاجتماعي والديني بين ساكنيه فإن الحي يشكل وحدة إدارية ذاتية توفر الخدمات المدنية ويتحمل ساكنوه مسؤولية مشتركة في أعمال الصيانة ونظافة طرقاته وجباية الضرائب ومراقبة الأمن والواجبات الأخرى نحو الدولة، وتتفن الأحياء بهندسة معمارية تبرز ثقافتها كمعبد اليهود الذي صمم على شكل السفن العثمانية التي أنقذتهم مع المسلمين من الأندلس من إبادة المسيحيين لهم.
عصر الدولة والقوانين
مثل مشهد آيا صوفيا عودة النظام السياسي ـــ الاجتماعي (المهاجر) الذي نشأ في دمشق الأموية ثم بغداد العباسية ثم ابتعد (عن الشرق) إلى قرطبة الأندلسية، كما أنه مثل عودة العاصمة التي ترخي ظلالها الاجتماعية والاقتصادية العسكرية والثقافية الإقليمية والتي خلا منها الشرق قروناً طويلة وغدا ساحة للغزو ليأتي دور العاصمة على استانبول.
عاد ذلك المجتمع لكنه (هذه المرة) بنظم إدارية تقتضيها التعددية الدينية والقومية المتزايدة في المجتمع ما دفع باحثين غربيين إلى اعتبار أن المواطنة بمفهومها الحديث هي بضاعة عثمانية وأنها كانت سبباً في امتداد فترة حكم الدولة العثمانية (80 قومية ودين ومذهب) ستة قرون وهي أطول امبراطوية.
طلقاء آيا صوفيا لم يكونوا محليين (الذين صدر فيهم قرار العفو) وإنما تبعهم طلقاء (ذاتيون) من أرجاء المعمورة وجدوا في عاصمة المملكة الجديدة كيانا مجتمعياً آمناً وواعدا، وثمة صنف ثالث من الطلقاء وهم الذين نقلوا نظامها الاجتماعي إلى بلدانهم كملك السويد تشارلز الثاني عشر الذي عاش منفيا في استانبول في 1790 وأبهره نظام الرعاية الاجتماعية فيها وقطع عهداً على أن ينقله إلى بلاده إن استعاد عرشه وقد كان، ويقوم نظام الرعاية الاجتماعية في السويد اليوم على نفس المبادئ، كما استفادت أوربا المعاصرة منظومة حقوق الأقليات في الدولة العثمانية (نظام مللي) في إدارة أنظمة التعدية الثقافية التي تبنتها أوربا حديثاً.
صاحب النظام الاجتماعي والإداري الذي انبثق من آيا صوفيا قبل 567 عام التمدد الإقليمي للدولة العثمانية واصبح نظاما إقليميا حفظت به الحواضر العربية الموصل وحلب وبغداد ودمشق والقدس مجتمعاتها على مدى القرون الخمسة من حكم الدولة العثمانية واستقر بعد سقوطها في مجتمعات الدول المعاصرة التي تشظت عنها.
كانت آيا صوفيا مشهدا لصفحة حضارية جديدة لحظة سكوت المدافع وبذلك فإن دلالة إعادتها إلى مسجد هي أكبر من حادثة استعادة مكان للعبادة وهو تخليد لوثبة في تاريخ الإنسانية أعادت توجيه النظام الاجتماعي للبشرية.
تركيا ومعها المجتمعات العربية بحاجة إلى تقديم دروس من تلك الوثبة الحضارية إلى منطقتهم التي مزق مجتمعاتها وهدم حواضرها نظام معاكس للنظام الذي شيد استانبول هو نظام المليشيات، ومدعوة لإيضاح لماذا استطاعت تلك الحواضر طوال القرون الماضية الحفاظ على بنيتها الاجتماعية شديدة الشبه بالبنية الاجتماعية التركية بينما تفقدها اليوم.
إحياء الالتحام الثقافي بين العرب والأتراك على الأسس الاجتماعية التي تلت فتح آيا صوفيا هو أفضل طريقة للاحتفال بعودتها إلى مسجد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس