ياسر عبد العزيز - مدونات الجزيرة
خطاب ماكرون عن الإسلام مأزوم
أحد الأحياء الحساسة في ضاحية باريس، حي (ليه موروه) قال ماكرون في خطاب تطرق فيه، أو ربما كان جله عن الإسلام، (أن على فرنسا التصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية الساعية إلى إقامة نظام موازي وإنكار الجمهورية) واعتبر ماكرون أن الإسلام ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم، على حد تعبيره، مؤكدا أنه لن يسمح بتلقين مبادئ تخالف المبادئ التي أنكرتها الجمهورية، ضاربا مثلا بالمساواة بين الرجل والمرأة، لامزا بقواعد المواريث في الشريعة الإسلامية.
كان واضحا على ماكرون عصبيته أثناء حديثه ما جعل خطابه يخرج من جعبة مأزوم فكلمة الإسلام أو الإسلام السياسي أو الإسلام الراديكالي التي وردت في خطابه عشرات المرات تؤكد أن أزمة ما يعيشها الرجل مع معتقد ما وفئة يتعدى أعدادها المليار وثلاثمئة مليون حول العالم، وهو ما جعله يعلن خلال خطابه عن تدابير عدة مثل إرغام أي جمعية تطلب مساعدة من الدولة التوقيع على ميثاق للعلمانية، وفرض إشراف مشدد على المدارس الخاصة الدينية والحد بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي.
خطاب متكرر تحول إلى رغبة بقانون
خطاب ماكرون هذا مكرر، ففي فبراير الماضي صرح الرئيس الفرنسي أنه بصدد فرض قيود على استقدام أئمة ومعلمين من دول أخرى إلى فرنسا، وذلك بهدف القضاء على ما سماه في حينها بالانفصال الإسلامي، لكن الرجل لم يكتفِ بهذا الإجراء بل أضاف له إلغاء دروس اللغة الأجنبية (العربية والتركية)، مع وضع 47 حياً من الأحياء التي تسكنها الجاليات المسلمة تحت المراقبة الدقيقة، ومن ثم منع الراحات الممنوحة للمسلمين أثناء العمل لأداء صلواتهم، ومنع الفصل بين الفتيان والفتيات في مقاعد الدراسة وملاعب الرياضة حتى حمامات السباحة، لم يكذب ماكرون حديثا، لتتحول تصريحاته وأمنياته إلى رغبة بقانون يدخل حيز التنفيذ بعد استيفاء الإجراءات المطلوبة لتمريره، وإن كان ماكرون قد ألقى خطابه في باريس هذا الأسبوع مدفوعا بظروف ضاغطة بعد الاعتداء بالساطور الذي نفذه شاب باكستاني قبل أسبوع في باريس والمحاكمة الجارية في قضية الهجوم على شارلي إيبدو عام 2015 والذي أودى بحياة عدد من موظفيها، فإنه في النهاية وقع في خطأ التعميم الذي لا يقع فيه إلا الجهلاء ومسطحي الفكر، وهي صفات لا يمكن أن تصدق على رئيس واحدة من أكبر دول العالم.
من التطرف الإسلامي إلى الإسلام المتطرف
لكن ماكرون الذي طالما تحدث عن التطرف ضاربا أمثلة بحوادث وقعت في العالم وفي بلاده، انزلق هذه المرة إلى منزلق اللاسياسة ولا دبلوماسية، فالسياسة فن ترويض الآخر، لكن وفيما يبدو لم تستطع الأنا العليا أن تكبح جماح مكنون القلب الحاقد على أمة كبيرة لا يمكن بأي حال من الأحوال تهميشها أو إغفال حضاراتها، فالحديث عن مجموعات، كتنظيم الدولة أو القاعدة أو عن حوادث، كحادثة الحادي عشر من سبتمبر أو شارلي إيبدو، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن توصم مليار وثلاثمئة مليون بالإرهاب، كما أن الحديث عن دول أبادت بعضها في حربين عالميتين وخلفت ما يقارب الــ 100 مليون ضحية بأنها إرهابية كما لا يمكن وصف ديانة من تركوا هذا الجرح لبشرية بالإرهابي، فخروج الوصف عن حدود الموصوف هو عين الغلو والإرهاب.
الحكم على الشيء فرع عن تصوره
يقول الأصوليون المسلمون (أصحاب علم الأصول) في أدبياتهم (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) أي أنك كي تصدر حكما على شيءٍ من أقوال أو أفعال لابد من تصور هذا الشيء، بمعنى فهمه واستيعابه بدرجة تجعلك تستطيع إدراك كلياته وتفهم جزئياته ومن ثم يأتي الحكم مطابقاً لما تحمله الفكرة من مزايا أو أخطاء، ما يعني أن شروط التعامل المنصف مع الآخر المختلف معك أن تصدر الأحكام من غير دراية أوعلم بحقيقة ماهيته، وغير ذلك فهو إجحاف هذا الكلام الثمين الرصين مسحوب في قواعد الأصول على كلام البشر، فما بال الكلام إذا كان من رب البشر، هاجم الإسلام كثر من لدن أبي جهل في عهد النبي صل الله عليه وسلم إلى أبي جهل القرن الواحد والعشرين ولم ينقص من قدر الإسلام ولا حضارته التي بنى عليه الغرب حضارته، لكن أزمة الفهم وضعف النفس وسوء الخلق تزيد الشخص بريقا فيلمع كما لمع من بال في زمزم.
العلمانية وتصور الحضارة الإسلامية
حديث ماكرون عن الإسلام وأزمته هو حديث برنارد لويس ومكسيم رودنسون، فالأول جزم أن المسلمين ليسوا ضحية الغرب الذي استعمرهم وجهلهم وجعلهم في ذيل الأمم بمنع العلم عنهم بل تخلف المسلمين يرجع إلى انغلاقهم التاريخي وسيطرة ما سماه باللاهوت الديني القديم على عقليات المجتمعات العربية والمسلمة، وهو حديث المغالطات، فلا الإسلام فيه لاهوت، ولا المسلمون انغلقوا على ماضيهم، والدليل تلك الدول التي حوربت وتحارب بمجرد محاولاتها النهوض من ركودها، وتلك التي انتفضت فسارع الغرب للالتفاف على انتفاضتها بعملاء يقمعون انتفاضتهم، لعلمه أن هذه الشعوب لو تحررت ستعود إلى هويتها وستنهار خطط التغريب التي أنفق عليها المليارات، كما ستنهار ممالك وجمهوريات بنيت على سمع الغرب وطاعته، أما مكسيم رودنسون فيرى أن أسباب تخلف المسلمين يكمن في عدم وجود أصوات قوية ضد التراث المتراكم – يعني الدين- كما حصل في أوروبا مع فولتير وروسو، والآن يسعى ماكرون بنفسه أن يكون فولتير العرب، في مشهد صوره في بيروت لم ينقصه إلا الجواري والعبيد، هذا التصور الاستعلائي لا يزيد العرب والمسلمين إلا تمسكا بقيم دينهم حتى ولو تعالت الأبواق المصنوعة في الغرب بعلمانية لا تهدف إلا لانحلال وتفكيك الأمم ليسهل سرقة مقدراتهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس