محمد زاهد جول – القدس العربي
تأتي في هذه الأيام الذكرى المئوية للمجازر التي تعرض لها الكثير من القوميات والإثنيات والطوائف العثمانية، إبان الحرب العالمية الأولى، فما من قومية عثمانية إلا وتعرضت لعمليات القتل والاضطهاد من القوميات الأخرى، أو انها خاضت معارك استقلال للانفصال عن الدولة العثمانية قبل انهيارها عام 1924. والمقصود بالقوميات العثمانية كل المكونات القومية والشعوب التي كانت تحمل الجنسية العثمانية، بمن فيهم العرب والأرمن والشركس والكرد والأتراك والبلقانيين والشيشان وغيرهم، وهم يبلغون أكثر من أربعين قومية وإثنية، كانت جميعها تتشارك في تابعيتها للخلافة العثمانـــية، وكل هذه القوميات والاثنيات كانت لها من الحقوق المتساوية ما عليها من الواجبات بحكم أنها جزء من الدولة العثمانية، فلم تكن الدولة العثمانية دولة تركية فقط، بل كان الأتراك أحد عناصر القوميات العثمانية، ولم تكن حدود الدولة التركية الحالية هي حدود الدولة العثمانية، بل كانت تشمل معظم الوطن العربي وأجزاء من دول البلقان وغيرها.
وعند محاولة إلغاء الخلافة العثمانية، لم يكن الأتراك وحدهم من يسعى لوراثة الدولة العثمانية فقط، فقد قامت المشاريع السياسية لإقامة الخلافة العربية في الحجاز، من شريف مكة الحسين بن علي، وكانت محاولة أخرى في مصر في العهد الملكي قبل النظام الجمهوري، وبالأخص من الملك فاروق، حيث سعى لإعلان الخلافة، كوريث شرعي للخلافة العثمانية بعد التأكد من الغائها من قبل الجمهورية التركية الأتاتوركية، وكذلك قامت مساع لإقامة الخلافة في الهند، ولكن كل هذه المحاولات لوراثة الخلافة العثمانية لم تنجح، ولو نجحت إحداها لكانت أولى الدول بتحمل حقوق وواجبات الخلافة العثمانية، لأنها ستعتبر نفسها امتدادا للخلافة الإسلامية منذ الخلافة الراشدة ثم الأموية والعباسية والعثمانية، ولذلك لم يستطع خلفاء بني عثمان إعلان أنفسهم خلفاء إلا بعد تنازل آخر الخلفاء العباسيين عند دخول العثمانيين للقاهرة.
من هنا فإن الجمهورية التركية لا يحق لها أن تدعي منفردة بوراثة حقوق الدولة العثمانية، ولا تحمل الواجبات التي تناط بالدولة الوريثة من الناحية الشرعية، لأنها دولة جمهورية قامت على أنقاض الدولة العثمانية، كما قام العديد من الدول العربية على انقاض تلك الدولة في البلاد العربية وغيرها، فإذا ما كان هناك من حقوق للدولة العثمانية قبل انهيارها فإن هذه الحقوق هي لكل المسلمين وغير المسلمين، الذين كانوا ينتمون إلى الدولة العثمانية، فلو وجد من وراثة فليست حقاً لأحد مكونات الدولة العثمانية إطلاقاً، وهذا الأمر ينطبق على ما ينبغي على الدولة العثمانية أن تتحمله من مسؤوليات تاريخية أو قانونية على علاقاتها الدولية، أو ما قامت بها من إجراءات ألحقت الضرر بأحد القوميات التي كانت من مكونات تلك الدولة أو في أراضيها الجغرافية.
من هنا فمن غير المنطقي لأحد أن يطالب الجمهورية التركية تحمل مسؤوليات الدولة العثمانية وحدها، بل هي تتحمل من المسؤولية جزءا منه بقدر نسبة دورها في تكوين الدولة العلية العثمانية، وتتحمل باقي القوميات والشعوب الأخرى الجزء نفسه الذي كانت تمثله، ويمكن اعتماد عدد النوب في مجلس المبعوثان الأخير كمؤشر على دور تلك القوميات لتلك المسؤوليات، لذلك فإن كل المطالب الأرمنية للاعتراف بالمجازر أو بالإبادة العثمانية من قبل الجمهورية التركية المعاصرة وحدها، هو مطلب في غير محله، لأن الدولة التركية الجمهورية ليست وحدها من كان يشكل الدولة العثمانية، وإنما كل القوميات الأربعين أو الخمسين أو أكثر، فقد يكون الجندي الذي أطلق النار على الأرمني جنديا كرديا او شركسيا أو لبنانيا أو سوريا أو عراقيا أو مصريا أو تركيا أو بلقانيا أو من غيرهم، فإذا قيل بأنهم كانوا جميعا جنودا للدولة العثمانية، فهذا صحيح، وبذلك يتحمل المسؤولية كل القوميات التي كانت مكونة للدولة العثمانية، لأن الدولة العثمانية لم تكن دولة تركية فقط اطلاقاً، بل كانت دولة كل القوميات الإسلامية وغير الاسلامية التي كانت تشكلها. فإذا كانت الحقوق التي يسعى لها الأرمن هي حقوق مادية من الأراضي والكنائس والممتلكات التي لا تزال موجودة في الجمهورية التركية، فهي قضايا تفصل فيها المحاكم التركية وغير التركية أيضاً، فإذا ما أثبت أي أرمني أن له حقاً في القرية الفلانية وأن اجداده كانوا يملكون تلك الأرض او المزرعة او المصنع، فإن ما يقدمه من إثباتات سوف تحكم له بهذا الحق، ولا تملك الحكومة التركية رفض هذه الحقوق المادية، وكذلك لو وجدت هذه الممتلكات خارج حدود الجمهورية التركية، فإن كل دولة كانت من مخلفات الدولة العثمانية بعد الغائها تؤدي ما عليها من حقوق.
وأما الحقوق المعنوية فلا بد من إثبات أن تلك المجازر كانت تستهدف القومية الأرمنية لأسباب دينية أو قومية وليس لأسباب حقوقية أو جرمية، فقد ثبت أن بعض الأرمن شاركوا بعملية اغتيال للسلطان عبدالحميد الثاني، وأن بعضهم شاركوا القوات الإنكليزية الغازية للدولة العثمانية في ذلك الـــوقت، أي أن إعدامهم كان لأسباب قانونــــية بسبب خيانتهم لدولتهم ومحاربتهم إلى جانب أعداء دولتهم، وهذه المحاكمات لا بد من مراجعتها من الناحية الحقوقية والتاريخية، وليس بقراءة سياسية معاصرة تمارس إسقاط أفكار العصر على ما وقع قبل مئة عام، ولو حصل إثبات ان أولئك المعدومين كانوا أبرياء، فالأمر في رد الحقوق عائد لأهلهم خاصة، وليست لأبناء القومية الأرمنية، لأن العقوبات كانت شخصية وليست قومية، ولكن الأمر الذي لا بد من التنبه له والحذر منه هو الأجندة السياسية التي تحاول بعض الدول والمؤسسات ان تعزف عليها لتحميل تركيا وحدها ما لا يجب عليها ان تتحمله.
لذلك كان من الخطأ الفادح أن يتدخل بابا الفاتيكان فرانسيس في خطابه السياسي يوم 12 أبريل 2015 في الفاتيكان بإصدار حكم سياسي بالموضوع، فمجرد حديث بابا الفاتيكان عن إبادة أرمنية في الحرب العالمية الأولى سوف ينظر له في الاوساط الدينية والسياسية التابعة للكنيسة بأنه حكم نهائي في الموضوع، وهذا خطأ كبير لأنه لا يستند إلى قرار أي محاكمة عادلة في الموضوع، وأمر اثبات الابادة يحتاج إلى محاكم تاريخية وقانونية لإصدار قرار في الموضوع، فلا يحق لبابا الفاتيكان ان يصدر حكما سياسياً في أمر ليس من اختصاصه بالنظر الى الوظيفة التي يقوم بها، وهي وظيفة روحية، ولا بد كذلك من مراجعة للظروف التي وقعت فيها الحرب العالمية الأولى وهو ما لم يشر اليه بابا الفاتيكان، وهذا يؤكد أن بابا الفاتيكان كان مدفوعا للمشاركة في مشروع إساءة للجمهورية التركية، التي كانت اول من استعد لمعالجة الأمور القانونية لأهالي القتلى او من سقطوا في تلك المجازر.
إن دخول الفاتيكان إلى الحلبة السياسية ليس في مصلحة الكنيسة المسيحية بعامة ولا الكاثوليكية ولا الأرمنية، بل يزيد مشاكل المنطقة اشتعالاً، وهذه خطوة ينبغي على الطائفة الأرمنية في تركيا أن تتنبه إلى مخاطرها، في اللحظة التي تسعى الحكومة التركية في ظل حكومة العدالة والتنمية لإيجاد حلول حقوقية لها، فتصريحات بابا الفاتيكان لا تخدم المصالحة الداخلية في تركيا.
وإن عدم قيام الكنيسة الكاثوليكية بواجباتها اتجاه المسيحيين الأرمن هو الأوجب ان يفكر فيه بابا الفاتيكان فرانسيس، والأولى به أن يفكر بحلول مشاكل كنائسه وإعطاء الحقوق للمسيحيين الأحياء الذين تنتهك حقوقهم من قبل الكهنة والقساوسة أنفسهم، وإذا كان بابا الفاتيكان معنيا بإعادة الحقوق إلى اهلها فإن محاكم التفتيش التي تعرض لها المسلمون عبر التاريخ ثابتة أكثر من غيرها، فقد دامت محاكم التفتيش لأكثر من 300 عام في بعض الدول الأوروبية، وبإشراف من بابا الفاتيكان، فضلاً عن الأوامر الدينية الظالمة للمسلمين والمسيحيين في البلاد الاسلامية من الحروب الصليبية التي كانت بأوامر بابا الفاتيكان في ذلك الوقت، وهو الأمر الثابت في الوثائق الكنسية والغربية بدون جدال.
فإذا كان المطلوب إيجاد حلول للمسألة الأرمنية إبان الحرب العالمية الأولى فان المحاكم القانونية والتاريخية هي الطريق الصحي، وليس المنابر الدينية والكنسية ولا المنابر السياسية التي تتاجر بآلام الشعوب، فلو صحت هذه المجازر بأنها كانت ابادة للأرمن فإنها إبادة وقعت لجزء من الشعب العثـــماني، والشـــعب العثماني هو من ينتصر لقضاياه، بكل قومياته وشعوبه وطوائفه الدينية، فليــس من دليل واحد على أن المجازر وقعت لأسباب دينية أو قومية إطلاقاً، وما يتحمله الشعب التركي والحكومة التركية من رد الحقوق المادية لأهلها، فقد أبدت الحكومة التركية أنها سلكت هذا الطريق منذ سنوات، وهي سائرة فيه إلى نهايته مع كل القوميات التي ظلمت من الدولة العثمانية أو في العهود الأولى للجمهورية التركية، في سياق المصالحة الداخلية، حتى يتم إحقاق الحقوق لكل صاحب حق من لكل أبناء الشعب التركي بغض النظر عن قوميته أو طائفته الدينية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس