احسان الفقيه - خاص ترك برس
يقول جورج فريدمان - المدير التنفيذي لستراتفور:
"تركيا في الأساس دولة زعيمة، رائدة بحكم طبيعتها، هي قوه اقتصادية الآن، لكن دورها المستقبلي يتمحور حول نموذجها الثقافي حيث ستتمكن من قيادة الدول الإسلامية فى الشرق الأوسط كما فعلت الإمبراطورية العثمانية سابقا".
لكل دولة ما يعرف بالقوة الخشنة أو الصلبة، والتي ترتكز بالأساس على نوعية وكمّ السكان، والموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، وقدرات السكان التقنية والصناعية، والقدرات العسكرية، ونظام الحكم والإدارة.
وفي مقابل القوة الخشنة أو الصلبة، هناك قوة ناعمة للدولة، يعرّفها د.صدقه يحيى فاضل بقوله: "القوة الناعمة هي عبارة عن اصطلاح سياسي يستعمل الآن للإشارة إلى أن للدولة –أي دولة- قوة معنوية وروحية، تتجسد فيما تطرحه وتقدمه من قيم وعقائد ومبادئ وأساليب إنسانية وحضارية وثقافة وأدب وفن ومساعدات اقتصادية وإنسانية واجتماعية تلقى من قبل الآخرين الرضا والاستحسان والتقدير".
ولمزيد من التعريف بالقوة الناعمة أورد الباحث مسفر القحطاني في أطروحته لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في العلوم الأمنية، التعريف اللغوي للقوة الناعمة حيث قال: "ويقصد بها تحقيق الأهداف والرغبات بالوسائل الحضارية الثقافية بعيداً عن الإرغام".
ثم أتبعه بالتعريف الاصطلاحي لـ "جوزيف ناي" والذي عرفها بقوله: "القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الإقناع وليس الإكراه".
ثم أورد تعريفه الإجرائي خلال الدراسة للقوة الناعمة حيث قال: "القدرة على التأثير وجاذبية الأطراف المعنية إلى المسار الذي يخدم مصالح الدولة وكيانها باستخدام الموارد المادية والمعنوية بعيداً عن الإرغام والتهديد".
* وعلي أي دولة تريد أن تحمي كيانها العناية بتدعيم القوة الناعمة وعدم الاكتفاء بالتركيز على القوة الصلبة فحسب.
الولايات المتحدة الأمريكية خير مثال على تجاهل القوة الناعمة في السياسة الخارجية، من وقت انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن ثمّ أصبحت أقوى دولة في العالم هي أكثر دول العالم استجلابا للعداوات القريبة والبعيدة، بسبب سياسات الهيمنة ورعاية المشروع الصهيوني.
وفي المقابل نرى في تركيا نموذج الدولة التي ركزت على القوة الناعمة (إضافة إلى القوة الخشنة) وخاصة في علاقتها بالعالم الإسلامي العربي الذي ترتبط به ارتباطا تاريخيا وحضاريا حيث كان العرب جزءًا أساسا من التراث العثماني.
وفي حين نرى السياسة الخارجية الإيرانية في الوطن العربي تعتمد على خلق الفوضى والاضطرابات، والتوسّع الإقليمي، وهو بدوره أدخلها في مواجهات سياسية وفكرية وثقافية وعسكرية مع بعض الدول العربية، سلكت تركيا مسلكا آخر مع العالم العربي يتمثل في الشراكة الاستراتيجية، والحفاظ على استقرار المنطقة، وتصفير الصراعات.
وإنما أعني بالسياسية الخارجية التركية، تلك التي صاغها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 2002م، والتي برزت بشكل واضح في كتاب الرئيس التركي الحالي أحمد داود أوغلو والذي يطلق عليه البعض "كسينجر تركيا"، الذي أسماه "العمق الاستراتيجي"، ويعتبر دستور السياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية.
وقد جعل أحمد داود أوغلو ركيزة السياسة الخارجية للحكومة التركية متمثلة في الأسس التالية:
الأول: الموازنة بين تعزيز الحريات في الداخل ومواجهة الأخطار التي تهددها.
الثاني: حل المشكلات مع دول الجوار وتصفير النزاعات.
الثالث: سياسة خارجية متعددة الأبعاد مرتبطة بموقع تركيا على طريق تقاطع القوى السياسية والمناطق الحيوية في العالم.
الرابع: تطور أسلوب دبلوماسي جديد في السياسة الخارجية يقوم على اعتبار أن تركيا مركز المنطقة وليست جسرا بين الشرق والغرب.
الخامس: الانتقال إلى دبلوماسية منتظمة ومتواصلة، بالتواصل مع المسئولين على مستويات مختلفة في دول العالم المختلفة.
في ورقة بحثية له بعنوان "اكتشاف القوة الناعمة الإيرانية.. القدرات وحدود التأثير"، تحدث الباحث على حسين باكير عن مصادر القوة الناعمة نقلا عن الباحث الصيني "هونج هوا مين"، وقال إنها تتركز في خمسة موارد، وهي:
الجاذبية الثقافية، القيم السياسية، النموذج التنموي الاقتصادي، المؤسسات الدولية (الاندماج الدولي)، الصورة الدولية.
في حين جعلها جوزيف ناي ثلاثة مصادر، وهي:
- الثقافة (في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين).
- والقيم السياسية (عندما يتم تطبيقها بإخلاص في الداخل والخارج).
- والسياسة الخارجية (عندما يرى الآخرون أنها شرعية وأن لها سلطة معنوية أخلاقية).
والمتابع لمسيرة حزب العدالة والتنمية الحاكم على مدى 13 عاما، وسياسته في التعامل مع الوطن العربي خاصة، يستطيع الإجابة على هذا السؤال: لماذا تغيرت تركيا في عيون العرب؟
وسيدرك كذلك أن ذلك مردّه للقوة الناعمة التي فعّلت الحكومة التركية أدواتها، واستغلال مصادرها سواء كانت على تقسيم "هونج هوا مين"، أو تقسيم "جوزيف ناي"، وهو ما يمكن إيجازه من خلال النقاط التالية:
1 - استدعاء الحزب الحاكم للتراث العثماني ومحاولة جعله فكرة مركزية لمشروع النهضة التركي وتعبئة الناس للالتفاف حوله حظي بالقبول والرضا لدى معظم العرب، نظرا لارتباط كثير منهم بعصور الخلافة والراية الواحدة الجامعة للأمة، والتي كان آخرها عهد الدولة العثمانية، وهو ما أعاد للأذهان العربية -التي طُحنت في رحى الضعف وتسلط الأعداء-ذكرى عصور القوة والفتوحات ومنافسة الشرق والغرب في أكثر فترات حكم الإمبراطورية العثمانية.
2 – الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية التي قامت بها حكومة العدالة والتنمية، كانت بمثابة أداة من أدوات القوة الناعمة التركية في العالم العربي الإسلامي، حيث أنها لاقت قبولا واسعا بين الأوساط المختلفة، بين الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين وأصحاب التوجهات المختلفة، فمن مظاهر تلك الإصلاحات:
- إلغاء حالة الطوارئ في الجنوب الشرقي لتركيا.
- تحييد المؤسسة العسكرية، وتحييد مؤسسة القضاء.
- تكريس معايير الديموقراطية، احترام حقوق الإنسان، وإعطاء مجال واسع للحريات.
- زيادة العمل في البورصة ثلاثة أضعاف وتراجع ديون القطاع العام، وارتفاع أجور العاملين ما بين 2002 إلى 2012م إلى 188%.
- احتلّت شركات المقاولات التركية المرتبة الثانية عالميا بعد الشركات الصينية.
- ارتفعت الصادرات التركية ما بين عامي 2002 و 2013م من 36 مليار دولار إلى 163 مليار دولار.
- بعد انضمام تركيا إلى مجموعة جي 20، أصبح الاقتصاد التركي سادس اقتصاد في أوروبا .. وبعد أن كانت تركيا في المرتبة 26 على مستوى العالم عام 2002 الآن تركيا في المرتبة 17 (اقتصاديا) على مستوى العالم.
- الاستثمار الأجنبي المباشر الآن في تركيا وصل الى 140 مليار دولار وفي 2007 دخل 22 مليار دولار في سنة واحدة (استثمار أجنبي).
- عدد الشركات الأجنبية في تركيا عام 2002 كان 5600 شركة أما في 2014 فقد أكّدت احدى الدراسات أن عدد الشركات الأجنبية في تركيا وصل الى 38 ألف شركة.
- في عام 2002 كان احتياطي البنك المركزي 27 مليار دولار وفي عام 2014 وصل احتياطي البنك المركزي الى 135 مليار دولار.
- والتاريخ الذي لا ينسى في تاريخ الدولة التركية الحديثة عام 2013 حيث تم تسديد الديون التركية خلال الخمسين سنة التي سبقت حكم العدالة والتنمية فقد كان هنالك 23.5 مليار دولار ديون على تركيا.. تم تسديدها كاملة خلال 11 سنة فقط.
- ارتفع الدخل القومي من 230 مليار دولار عام 2002 إلى 840 مليار دولار عام 2014م.
- أما دخل الفرد فلم يتجاوز عام 2002 الـ 3500 دولار للفرد فارتفع الى 11 ألف دولار عام 2014.
- على صعيد السياحة عدد من زار تركيا عام 2014 بلغ 38 مليون سائح مقابل 13 مليون سائح عام 2003.
* فاقت ميزانية التربية والتعليم ميزانية وزارة الدفاع.. فخلال 11 عاما فقط تم بناء 99 جامعة جديدة ووصل مجموع الجامعات في تركيا الى 175 جامعة.
* تمّ انشاء 26 مطار خلال 11 عاما ليصل العدد الى 52 مطار في تركيا.
خلال 13 سنة ومن ضمن 17500 كيلو متر من الطرق المزدوجة في الجمهورية *التركية عامة. هنالك 6100 كيلو متر تمّ تعبيدها خلال الثمانين سنة التي سبقت حكم حزب العدالة والتنمية. أي أنجز الحزب الحاكم في 13 سنة ثلاث أضعاف ما تمّ انجازه بـ80 سنة فيما يتعلّق بتعبيد الطرق.
* أنشأت تركيا في الفترة نفسها 251 مستشفى، و1028 مستوصف، وكرست نظام طبيب العائلة في كل المدن، وارتفعت ميزانية الصحة إلى 13.4 مليار ليرة عام 2010.
* في الفترة نفسها تم ترميم 3484 أثرا تاريخيا وأرشفة 12 مليون وثيقة الكترونيا، وإنشاء مشروع السكة الحديدية "مارماري" الذي يربط آسيا بأوروبا تحت مضيق البسفور.
===
3 – بعد انتخابات 2002م بأسبوعين جمع رجب طيب أردوغان السفراء العرب في أنقرة، وكشف لهم عن نية الحكومة في إحياء العلاقات بين تركيا والعالم الإسلامي والعربي من جديد وتضاعف حجم التبادل الاقتصادي مع الدول الاسلامية 10 أضعاف ما كان عليه في السابق. وهناك 6 اتفاقيات تجارة حرّة بين تركيا وستة دول عربية (المغرب، تونس، الأردن، مصر، فلسطين، سوريا).
4 – قدّمت تركيا في ظل حكم العدالة والتنمية نموذجا طيبا مقبولا لدى الدول الإسلامية والعربية مثّل عنصر جذب لهم، وغير نظرتهم لتركيا، كان أبرز سمات هذا النموذج بحسب دراسة أعدها جمع من الباحثين بمركز الجزيرة للدراسات بعنوان "تركيا بين تحديات الداخل ورهانات الخارج:
أولًا: التناوب على السلطة وإدماج التيار الإسلامي في العملية الديموقراطية.
ثانيًا: النموذج الاقتصادي الذي تقدمه تركيا باعتبارها أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، في الوقت الذي لا تملك فيه موارد الطاقة على العكس من غالبية الدول العربية.
ثالثا: التوفيق بين المعاصرة وبين الحفاظ على الهوية بجذرها الثقافي والديني والتاريخي في إطار مقبول دوليا وإقليميا.
رابعا: الفصل بين الحزب والدولة في المجال العام عبر الفصل الواضح بين حدود ومهام جهاز الدولة والحزب الحاكم.
خامسا: تكوين مجموعات الضغط (اللوبي) في أمريكا وليس بالاعتماد على شركات العلاقات العامة موسمية الطابع.
سادسا: تحقيق التوازن في التعامل مع الولايات المتحدة بما يحقق المصالح الوطنية والاستقلالية معا.
4 – اقتربت تركيا من العالم العربي الإسلامي بعد قرار البرلمان التركي عام 2003 بعدم نشر قوات أمريكية في تركيا للوصول إلى العراق ورفض المشاركة التركية في الغزو، وهو ما اعتبره كثير من العرب خروجا عن التبعية الأمريكية والغربية التي عاشت في ظلها تركيا الأتاتوركية.
5 – زاد من شعبية الحزب الحاكم موقف أردوغان في مؤتمر دافوس الاقتصادي، حيث انتقد وبشدة الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز وحكومة بلاده لاعتداءاتها الوحشية على غزة، وانسحب أردوغان على إثر ذلك من المؤتمر.
واعتبر العرب أردوغان بعد هذا الموقف زعيما شعبيا في الأوساط العربية، وأزال مفهوما رائجا بأن تركيا حليف استراتيجي لإسرائيل.
6 – الدور الفاعل لتركيا تجاه قضايا العالم الإسلامي العربي، أبرزها فلسطين، ودعم قطاع غزة ومحاولة فك الحصار، والذي تعرضت فيه السفينة التركية مرمرة للاعتداء الصهيوني فيما عرف بمجزرة أسطول الحرية عام 2010، بالإضافة إلى التنديد بجرائم الاحتلال ضد شعب غزة.
كما أولت الحكومة التركية عناية خاصة بالأزمة السورية، وتعتبر من أول وأكثر الدول إدانة لجرائم بشار الأسد، ولها موقفها الثابت في المطالبة بتنحي الأسد، بالإضافة إلى فتح أبواب تركيا لللاجئين السوريين، وتقديم الدعم والرعاية لهم.
7 – تعمل تركيا من خلال سياستها الخارجية المتوازنة على وقف الزحف والتمدد الإيراني في المنطقة رغم استمرار العلاقات الاقتصادية معها، وكان آخر ذلك دعمها وتأييدها لعاصفة الحزم، وإعلانها الدفاع عن أراضي السعودية ضد أي اعتداء على أراضيها.
8 – لجوء تركيا للحل السياسي في التعامل مع مشكلة الأكراد، واستطاعت عبر المساعي الدبلوماسية أن توشك على إنهاء هذا الملف دون استخدام السلاح.
9 – الموقف التركي الداعم لثورات الربيع العربي، ثم رفض الانقلاب في مصر، دعم مكانة تركيا وحكومتها لدى العرب، باعتبار هذه الدولة ترعى الديموقراطية وتحترم آلياتها في الداخل والخارج.
*ولكن يبقى السؤال قائما:
هل التقارب العربي التركي مرهون ببقاء حزب العدالة والتنمية في سدة الحكم؟
ماذا لو صار الحزب بكل رموزه وشخصياته اللامعة خارج المنظومة الحاكمة، هل ستعود العلاقات العربية التركية إلى حالات الركود والفتور مرة أخرى؟
* سؤال حتما يحتاج إلى بحث وإجابة تفصيلية.
وللحديث بقية...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس