مروة شبنم أوروج - مركز حرمون للدراسات المعاصرة
في الأسبوع الماضي، تمّت مناقشة بحث مكثّف مع اللجنة الفرعية للهجرة والاندماج في البرلمان التركي، ويُعدّ هذا البحث أكبر بحث متعلق بالسوريين في تركيا، في السنوات الأخيرة. وبحسب البروفسور مراد أردوغان (مدير مركز أبحاث الهجرة والاندماج في الجامعة التركية الألمانية) الذي أنجز البحث، يوجد اليوم ثلاثة ملايين و635 ألف لاجئ سوري في تركيا.
بالمقارنة مع الأبحاث السابقة، يذكر أردوغان أن نسبة من قالوا: “لن نعود إلى سورية، بأي شكلٍ من الأشكال” ارتفعت، في السنوات الأخيرة، إلى 51،8 % مقارنةً بعام 2017، إذ كانت نسبتهم 16،7 %. وبينما كانت نسبة من قالوا “نعود إلى سورية، إذا انتهت الحرب وتشكلت حكومة كما ينبغي أن تكون”، في عام 2017، نحو 60 %، انخفضت هذه النسبة في البحث الأخير إلى نحو 30 %.
البحث المعنيّ لمّا يُنشر بعد، لكن البيانات والتحليلات التي عُرضت للمجلس، من البحث الميداني في 2019، تؤكد ما يقوله البروفسور أردوغان: “بالنظر إلى الأبحاث الثلاثة الأخيرة؛ نرى أن سعادة السوريين في تركيا قد ازدادت”، ويضيف: “هنالك تصوّر بأنهم يشعرون بتحسّن وبأمان أكثر من الأعوام الثلاثة السابقة”.
وبحسب البحث، ما زالت نسبة السوريين في تركيا، الذين يقولون “أخطط للعودة”، هي 6،8 %. وقد تشير النتائج إلى أن السوريين غيّروا رأيهم، بسبب فقدانهم الأمل من سورية. وعلى الرّغم من أنني أقف على مسافة بعيدة من الثقة في استطلاعات الرأي والتسليم بها، فإني أرى أن هذه الإحصاءات التي كشفت عنها هذه الدراسة هي على الأقل نقطة مرجعية للأشخاص المشككين مثلي. لقد مرّ ما يقرب من عَشر سنوات على بداية الحرب السورية، ومن الطبيعي أن يكون يأسُ اللاجئين من مستقبل البلاد قد ازداد.
من جهة أخرى، نرى أن اللاجئين كانوا، في الأعوام السابقة، ينتظرون انتهاء الحرب والعودة إلى بيوتهم، لكنّهم مع مرور الزمن أسسوا حياة جديدة في تركيا التي هاجروا إليها، ومن الطبيعي أنهم لا يفكرون بترك هذه الحياة، لتأسيس حياتهم من جديد مرة أخرى، وإنْ تغيّرت الظروف، وهذا واقع في الحياة الفردية والمجتمعية. إن الحياة تستمرّ في كل الأحوال، بطريقة أو بأخرى، والوقت الذي يمرّ يجلب معه حياة جديدة، وصراعًا جديدًا من أجل تلك الحياة، ونظامَ حياة جديدًا، وأهدافًا جديدة.
مع مرور الزمن الذي تحوّلت فيه الأسابيع إلى شهور والشهور إلى سنوات، وجد المهاجرون أنفسهم في وضع “الانتظار” على أرض بلد آخر، وأصبحوا يواجهون مصاعب ومحنًا مختلفة في حياتهم، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوه. وعلى الرغم من توقّف الحياة في سورية، فإن الحياة مستمرةٌ في العالم. على سبيل المثال، الأطفال السوريون الذين وُلدوا في تركيا في بدايات الحرب صار عمرُهم اليومَ عشر سنوات، والقاصرون الذين لجؤوا إلى تركيا أصبحوا الآن شبانًا يافعين. وعندما يضاف البحث عن العمل والتعليم والتنمية الشخصية والفرص الأخرى إلى احتياجات الناس، مثل المأوى والغذاء والرعاية الصحية، يأخذ كل شخص حاجته من قائمة “الانتظار”، ويضعها في وضع “التفعيل”. ولا يُعدّ ذلك تخليًا عن الوطن، حيث يجبُ على كل فرد أن يجعل حياته مستمرةً.
يجدر بنا القول إن عملية اندماج اللاجئين السوريين في المجتمع التركي لم تكن سهلة، على الرغم من أن الجمهورية التركية قدّمت تضحيات كبيرة، ولم تدّخر أي جهد في سبيل تأمين الاحتياجات للاجئين السوريين. غير أن بعض المجموعات المؤيدة لنظام الأسد، إضافة إلى الأقليّات التي هي تحت تأثير النهج المذهبي والطائفي في تركيا، تحيّزوا ضد السوريين، كما حصل في باقي بلدان العالم، نتيجة صعود تنظيم (داعش)، والأهم من ذلك ظهور خطابات لبعض السياسيين والصحفيين المعارضين، تحض على كراهية السوريين، ومن المعروف أن ذلك أدى إلى تحيّز شريحة محددة في المجتمع التركي ضد السوريين. ويلاحظ أيضًا أن الانتقادات التي استهدفت سياسة إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان تجاه سورية، من خلال مزاعم كاذبة كالقول إن “السوريين يتلقون الدعم أكثر من المواطنين الأتراك”، في المساعدات المادية والخدمات الصحية وغيرها، قد أثارت الشكوك لدى شريحة من المجتمع.
وعلى الرغم من كل السلبيات الواردة وبعض الأحداث والقضايا القانونية المؤسفة، لم تكن هناك توترات كبيرة بين السوريين والأتراك طوال المدة الماضية. ولكن هذا لا يعني أن السوريين والأتراك باتوا جاهزين للتعايش معًا. حيث يعاني المجتمع التركي مشكلات عدة سببتها الحرب الأهلية السورية، وهذا يعني أن الأتراك غير راضين عن عدد اللاجئين الذين يهاجرون من سورية إلى تركيا، لكنهم لم يُظهروا ردّات فعل ومقاومة شديدة.
وبحسب البحث، فإن نسبة التمييز ضد السوريين، عند المجتمع السوري في تركيا، في حالة تناقص. أما بالنسبة للمجتمع التركي، بالرغم من الأقاويل، فإن “ثقافتنا لم تعد هي نفسها”، يُلاحظ أن السوريين باتوا يتأقلمون مع العيش في تركيا بمرور الوقت، وسيكون هناك في المستقبل عوامل محددة أكثر حسمًا. ومع ازدياد تكيّف السوريين في تركيا، يمكن توقّع زيادة الاندماج الاجتماعي بين السوريين والأتراك، ولن يكون هذا على المدى القصير، بل بمرور الوقت.
ويذكر البحث أيضًا أن رضى السوريين عن الخدمات العامة في تركيا في ازدياد مستمر. وتحتاج الزيادة السكانية في بلد ما بنسبة 3-4 %، في وقت قصير جدًا، إلى قيام الدولة بتنمية شاملة حتى في بنيتها التحتية، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، فضلًا عن الخدمات العامة أو التعليمية. بعبارة أخرى: هناك تكاليف غير ظاهرة بقدر التكاليف الظاهرة.
ويمكننا القول إن تسريع الخطوات المتخذة لتحسين نظام الهجرة، في دولةٍ تعاملت في فترة الهجرة نفسها مع تهديدات الأمن القومي (مثل الهجمات الإرهابية ومحاولات الانقلاب) وخاضت اضطرابات سياسية، إنما يعتمد على التجربة التي طُوّرت بمرور الوقت، وعلى الخطط الإستراتيجية التي اتُّخذت. ونرى أن النظرة القصيرة المدى التي ظهرت مع بداية الحرب الأهلية السورية، بمقولة “السوريون موجودون مؤقتًا، وسيعودون عند انتهاء الحرب”، قد حلّ مكانها، مع مرور الوقت، خطط طويلة المدى تؤثر في سياسة الدولة. وبينما يسعى السوريون للتأقلم مع الحياة الجديدة، تسعى الدولة التركية للتكيف مع الوضع الطبيعي الجديد.
في عام 1961، تم اتفاق عمالة بين تركيا وألمانيا الغربية، وسمي آنذاك بـ “اتفاق العمالة التركية”، وبدأت بذلك أول هجرة عمالة رسمية. وعلى الرغم من عدم وجود حربٍ أهلية في البلد الذي هاجروا منه في تلك الفترة، وعلى الرغم من إمكانية العودة إلى البلد، لم يعد معظم المهاجرين الأتراك، ويوجد هناك أتراك قضوا 60 عامًا وعاشوا ثلاثة أجيال في ألمانيا، والسبب يعود إلى أن الأتراك في ألمانيا قبلوا الاندماج ضمن المجتمع الألماني.
إن هجرة السوريين شبيهة نوعًا ما بهجرة العمالة التركية، من حيث المدة الزمنية التي قضوها في بلد المضيف، مع أن أسباب هجرة السوريين مختلفة كليًا عن أسباب هجرة الأتراك. وإذا أخذنا بالحسبان نسبة السوريين في مخيمات اللجوء في تركيا، وهي 1%، وجدنا أن عملية الاندماج قد بدأت منذ زمن. لقد وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، بعدما تجاوزنا أيامًا عصيبة، وذلك بفضل حكمة الأتراك والسوريين معًا، وإذا نجحنا في حماية هذه الحكمة؛ فسيكون الغدُ أسهل بكثير لكلا الطرفين
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس