مصطفى واجد آغا أوغلو - خاص ترك برس
هناك شخصيات تخلّد نفسها من خلال كتاباتها وأفكارها وخدماتها العلمية والمعرفية. فكل جسد حتماً سيموت يوماً ولكن المعارف التي تُترك تبقى حيةً ما دامت الحياة باقية. فخير مثال لذلك كتاب " الجمهورية" للفيلسوف العظيم أفلاطون فهو يُدْرس ويُدرّس منذ ألفين وأربعمائة عاماً، فيا له من شرف وخدمة وبصمة عظيمة.
واليوم نتطرق لشخصية تركت إرثاً علمياً عبارة عن مؤلفات ورسائل ومذكرات نتاج تجاربها ودراساتها، ولكن معظم أبناء العالم العربي لم يتعرف على هذه الشخصية إلا بعد تجسيد دورها في إحدى المسلسلات التركية التي تُصوّر عهد السلطان عبدالحميد الثاني والتي تُترجم إلى العربية.
من هو خليل خالد بك؟
هو دبلوماسي وأكاديمي وكاتب عثماني/تركي، ولد في أنقرة عام 1869. ينتمي لأسرة دينية وعلمية فجده عثمان وهبي أفندي كان من كبار علماء إسطنبول في عهد السلطان محمود الثاني، وأما جده الأكبر فهو الشيخ مصطفى أفندي أحد أقطاب الطريقة الخلوتية. تلقّى خليل خالد بك تعليمه الأولي في المدرسة الرشدية بأنقرة ومن ثم انتقل إلى العاصمة إسطنبول وأكمل دراسته هنا. وفي عام 1894 سافر إلى إنجلترا لأجل ديمومة الدراسة والأبحاث، وبعد مضي ثلاث سنوات عُيّن قنصل ثاني (نائب القنصل) في السفارة العثمانية بلندن.
وفي عام 1898 عَرض خليل خالد بك للسلطان عبد الحميد الثاني تقريراً مفصلاً عن خليج البصرة تطرق فيه عن نوايا الإنجليز تجاه البصرة وأمور سياسية أُخرى. وفي عام 1902 أصبح مدرساً في جامعة كامبريدج وهو أول تركي يُدّرِس في هذه الجامعة حسب الموسوعة الإسلامية التركية. وفي الحين نفسه درس الماجستير هنا وتلقى دروساً في الحقوق السياسية. وما بين عامين 1904-1905 سافر إلى مصر والسودان والجزائر، وأدار أثناء هذه الزيارات حملة جمع المساعدات المادية لأجل بناء مسجد في لندن. وفي العام 1911 قرر خليل خالد ترك وظيفته في جامعة كامبريدج ليرجع إلى وطنه.
وانتخب نائباً من أنقرة في مجلس المبعوثان عام 1912 ولكن فسخ المجلس بعد فترة قليلة فقرر ترك الحياة السياسية، وأصبح قنصلاً في الهند عام 1913 ولم يبقى هناك كثيراً حيث استقال من منصبه بعد عام؛ وكان مسلمو الهند يحبونه كثيراً فأرسلوا العشرات من الرسائل لمركز القرار يرجون بقاء خليل خالد بك قنصلاً عندهم. وتفرغ فيما بعد للحياة الأكاديمية فعين مدرساً في كلية الآداب بإسطنبول عام 1922، ومن ثم درّس أيضاً في كلية الإلهيات وألقى دروساً بالإنجليزية في المدرسة الحربية. وتوفي في إسطنبول بتاريخ 29 مارس/أذار سنة 1931 ودفن في مقبرة مركز أفندي. فحياة خليل خالد بك كانت عبارة عن وظائف دبلوماسية وأكاديمية وأسفار دراسية وكتابة مؤلفات وبحوث؛ فالصورة التي ارتكزت في الأذهان بعد تجسيد دوره في إحدى المسلسلات المذكورة أنفاً بالطبع لا تُمثّل حقيقة خليل خالد بك.
العراق وقضية الموصل من منظور خليل خالد بك؟
لقد ألّف خليل خالد بك كتباً عديدة؛ وتطرق لمختلف المسائل والأمور لا سيما وأنه عاش في فترة حساسة جداً؛ فمشاهدته الحرب العالمية الأولى يكفي بمفرده. ومن جملة القضايا التي تطرق لها هي "قضية ولاية الموصل". وتناولْ خليل خالد لمشكلة الموصل في كتابه ( Türk Hakimiyeti ve İngiliz Cihangirliği) جاء في وقت لم تنتهي مشكلة الموصل بعدُ؛ فهي ما زالت قضية عالقة بين تركيا والإنجليز، أي قبل التوقيع على معاهدة أنقرة بتاريخ 5 يونيو/حزيران 1926 التي حُسمت بذلك عائدية ولاية الموصل.
قبل كلّ شئٍ يؤكد خليل خالد بك مساعي وأهداف الإنجليز ونواياهم السيئة بشكل عام، وهنا نتساءل هل رؤية خليل خالد للإنجليز بهذا الشكل نابعة من عاطفته الشخصية والوطنية، أم هي حقيقة أدركها عن كثب لا سيما وأنه عاشرهم في عقر دارهم وصاحبَ أبناءهم ودَرَسَ ودَرّس في جامعاتهم؟
يرى خليل خالد حملة إحتلال الإنجليز للعراق لم تكن وليدة أيام الحرب العالمية الأولى بل كانوا يدرسون ويخططون لذلك منذ أمد بعيد. ففي هذا الصدد يقول: إن أطماع الإمبريالية البريطانية لمحيط الفرات ترجع لعقود سابقة، حتى إن إحدى الشركات في إنجلترا سُميت ب"سكك حديد وادي الفرات" سنة 1856. ويردف قائلاً: نوايا الإنجليز السابقة لاحتلال العراق تكفي للإشارة إلى القنصلية الإنجليزية العامة في بغداد؛ حيث كانت القنصلية عبارة عن مركز عسكري ومخفر. وقبل نشوب الحرب العالمية كان البعض من ضباط الجيش الإنجليزي في الهند يزورون الأراضي العراقية كثيراً. وإلا ما علاقة زيارة ملازم عسكري إنجليزي لآثار نينوى بحجة بحوث علمية، وكذلك ما علاقة نقيب عسكري في كربلاء مع بحوث في "علم مقارنة المذاهب".
وفي السياق نفسه يؤكد خليل خالد بأن أطماع الإمبريالية البريطانية لدجلة والفرات لها أبعاد عقائدية؛ حيث تشير المسيحية والعهد القديم لمياه دجلة والفرات وتحاول بريطانيا ربط علاقة بين الديانة المسيحية وهذه المياه المباركة؛ وعلاوة على هذا فإن أحد أهم المصادر الإنجليزية ألا وهو "قاموس المعلومات الدينية" أيضاً تتكلم عن هذين النهرين. وهنا ينتقد خليل خالد بك أبناء جلدته قائلاً: إننا نجهل الكثير من الأمور ولا ندركها إلا بعد وقوعها.
وبخصوص إحتلال ولاية الموصل يؤكد خليل خالد بأن الإنجليز إستغلوا ضعف الحكومة العثمانية في إسطنبول التي كانت بمثابة أسير عقب نهاية الحرب العالمية، فأجبر الإنجليز العثمانيين على الإنسحاب من الموصل وبهذا تم احتلال ولاية الموصل وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1918.
وحسب منظور خليل خالد فإن أطماع الإنجليز وإصرارهم في إحتلال ولاية الموصل يعود لسببين. أولاً: النفط الموجود في تلك الأراضي. ثانياً: السيطرة على أجزاء كثيرة لنهر دجلة؛ وحتى إن أمكن السيطرة على منبع النهر. ويؤكد قائلاً: إن نهري دجلة والفرات يشغلان أهمية إقتصادية لا تقل عن أهمية نهر النيل. وأما الموارد النفطية فقد جذبت إنتباه الإنجليز وأشغلت أذهان الكثير من سياسييهم منذ زمن طويل.
وفي سياق آمال ونوايا الإنجليز القديمة في إحتلال العراق وولاية الموصل على الوجه الخصوص يتطرق خليل خالد بك للسياسي والدبلوماسي الإنجليزي " هنري لايارد " الذي زار الموصل وعمل تنقيبات أثرية في نينوى وأخيراً نجح في نقل الآثار القديمة التي تعود بعضها للأشوريين إلى لندن. ولقد ألف لايارد كتاباً سنة 1853 بعنوان "إكتشافات نينوى وبابل" وانتقد من خلاله الحكومة العثمانية بحجة إهمال أجمل نهري آسيا (دجلة والفرات)، واتهم الإدارة العثمانية بالظالم وإيقاع الضرر تجاه الولايات العربية. وهنا يدافع خليل خالد عن العثمانيين ويقول الأمر ليس مثلما يدعي هنري لايارد، فلم يكن من السهل للأتراك أن يطوروا جميع أجزاء هذه الجغرافية الواسعة بشكل كبير في ظل مكائد وألاعيب الأعداء الأجانب. وهنا نلاحظ بصيرة خليل خالد بك حيث يقول في كتابه الذي ألفه بعد سنوات قليلة من الإحتلال البريطاني للعراق، يقول رداً على إتهام لايارد: "هذه المناطق التي بين أيديهم الآن لا أظن أنها تتطور بالسرعة التي يتكلمون عنها".
وفي النهاية يرى خليل خالد بك نوايا الإنجليز في مفاوضات قضية الموصل تجاه تركيا سيئة وتحمل خبثاً. وينتقد موقف عصبة الأمم (الأمم المتحدة) ويقول لو رأيتُ منهم قراراً لصالحنا لأعتبرت ذلك نعمة ومعجزة. ويؤكد: لو كان تسع وتسعون بالمائة من سكان ولاية الموصل من الأتراك مثلي؛ لما تغير في الأمر والقرار شيئاً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس