ترك برس
يُعرف عن السلطان العثماني سليمان القانوني (ت 974/1566م)، أنه أولى القدس أهمية كبيرة عبر الخدمات التي خصصها لها. ولم تقتصر هذه الخدمات على تطوير وإعمار المدينة فقط، بل لامست حياة سكانها المسلمين والمسيحيين، المقيمين والزائرين على حد سواء.
وتفيد المصادر التاريخية بأن مدينة القُدس شهدت في عهد السلطان القانوني، اهتماماً مميزاً، لا سيما أن مدة حكمه كانت طويلة وأسهمت في تسجيل العديد من المنجزات الحضارية في أرجاء إمبراطوريته.
ومن أروع الأمثلة التي تبيّن العناية السلطانية الفائقة بالقدس، ما أورده أحمد حسين الجبوري في كتابه" القدس في العهد العثماني (1516-1640)"، أن السلطان منع الإنكشارية من الدخول إلى المدينة، لما عُرف عنهم من الشدة والغلظة، ففي عام 944هـ/1537م، أصدر فرماناً يمنع الانكشارية من الدخول إلى القدس، وأنشأ وحدة مميزة منهم، يُنتقى عناصرها بعناية، أوكل لهم مهام حفظ الأمن في المدينة. وكانت أبواب المدينة تُفتح يومياً عند شروق الشمس وتُغلق عند غروبها، ولم يكن يُسمح للأجانب بدخول المدينة إلا بإذن مسبق يحصلون عليه، ما يستدعي المزيد من الأمن، وغياب القلاقل والنزاع عنها.
وتُظهر المعطيات أن هاجس حماية القدس كان ملازماً للسلطان القانوني، فبعد انتهاء أعمال ترميم المسجد الأقصى، أمر السلطان بتجديد بناء قلعة القدس، التي تهدمت منذ أوائل القرن 9هـ/15م. تمت أولى مراحل الترميم والبناء في القلعة في عام 938هـ/1531م، إذ أضيف إلى بنائها الأصلي ممرٌ في جهتها الشرقية، وفي عام 939هـ/ 1532م، تم الانتهاء من المرحلة الثانية، بحسب تقرير لـ "TRT عربي."
لم يكن اهتمام السلطان سليمان محصوراً بالبناء والعمارة فقط، بل عمل على حل مشاكل القدس وحاجات الناس الأساسية فيها، إذ تذكر دراساتٌ حديثة للتاريخ العثماني في مدينة القدس، أن السلطان القانوني خصص أموالاً طائلة لبناء المنشآت وجر المياه إلى القدس، إذ ربط المدينة بالبرك التي تعرف باسمه "برك سليمان"، وأوقف على هذه المنشآت العديد من الأوقاف لصيانتها وعدم تعطلها، وبنيت في عهده بركة قرب باب الخليل عام 943هـ/1536م، وجرى إيصال المياه من البركة إلى الأسبلة التي أقيمت داخل الأقصى، ومنها تفرعت إلى أرجاء المدينة، حيث أنشئت الأسبلة عند تقاطعات الطرق، عبر أقنية حجرية محفورة.
وإضافةً إلى المياه، عُنيت السلطات العثمانية بتوفير الإمدادات الغذائية للمدينة، ففي عام 960هـ/1552م، أمر السلطان واليه في الشام، أن يوفر حاجات القدس من الحبوب، على أثر تعرض المنطقة لموجة من الجراد، أدت إلى إتلاف المحاصيل، وتزايد حاجات السكان إلى المؤن. ويمكن أن يسأل أحد القراء، أن هذا الفعل طبيعيّ، بل هو من واجبات السلطان. وهو تساؤل محق، ولكن الإشارة الخفية في الحادثة، أنها صادرة عن السلطان مباشرة، ولم تكن مبادرةً من واليه على القدس أو على دمشق أو غيرها من ولايات الشام الأخرى، ما يدلل على وضع القدس تحت إشراف السلطان المباشر، واهتمامه بها بنفسه، على الصعد كافة.
وعُرف عن الدولة العثمانية معاملتها السمحة مع أتباع الأديان الأخرى، وهي سماحة مرتكزة إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وتذكر المصادر التاريخيّة أن السلطان القانوني سمح لكنيسة مرقد عيسى بوضع الأجراس داخلها، إذ كانت حتى عام 952ه/1545م خالية منها. وتمتعت الكنائس المسيحية برعاية الدولة العثمانية، فقد سار العثمانيون بتطبيق أحكام الشريعة الغراء، ونظموا شؤون حج المسيحيين إلى القدس، وأمنوا الحماية خلال إقامتهم، بل بلغ اهتمام العثمانيين بالطوائف المسيحية، حدّ التدخل لفض النزاعات بينهم، ومحاولة تقريب وجهات النظر.
وإلى جانب هذه الإنجازات، شهدت القدس موجة عمارة وبناء ووقف لم تشهد لها المدينة مثيلاً، من بناءٍ للربط والخانقاه والمساجد والحمامات وغيرها، ومن أعظم الأوقاف التي ما زالت صامدة حتى يومنا، وقف زوجة السلطان سليمان المعروف بوقف "تكية خاصكي سلطان"، التي بنتها زوجته "حُرُّم"، فقد أوقفت عليه السلطانة أوقافاً كثيرة، في القدس ونابلس وغزة وطرابلس الشام، وكان مبنى التكية عظيماً، وعدد موظفيها 50 موظفاً، ويقدم مطبخها مئات الوجبات يومياً، إلى جانب العديد من الخدمات للفقراء والمساكين.
هذه قبساتٌ قليلة من واحدٍ من أعظم سجلات التاريخ، فقد عادت القدس في عهد القانوني إلى سابق عهدها، من ألق وتميز واهتمام، وشكلت العناية السلطانية بها، نموذجاً متكرراً من العناية بواحدة من درر المدن الإسلامية، ما يدفعنا مجدداً إلى تأكيد الحقيقة التاريخيّة الساطعة، وهي أن الاهتمام بالقدس والمحافظة عليها وصون معالمها ووجودها، يسطر اسم فاعله بسجلات الخالدين، أما من يبيع القدس ويتآمر عليها، سيُلقى في مزابل التاريخ، وسيُنسى مهما بلغ سلطانه، وقوته ومجده.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!