د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
تقود كثير من المؤشرات والدلائل نحو ارتفاع أسهم وقوع المواجهة المباشرة بين القوات التركية والميليشيات الإيرانية في شمالي العراق بقرار إيراني نتيجة فقدان الأخيرة للكثير من الأحجار المؤثرة هناك، بسبب الضربات العسكرية المتزايدة للقوات التركية على خط قنديل - سنجار – مخمور ضد مواقع وقيادات حزب العمال، وتفاقم الغضب المتزايد في أربيل بعد محاولات تحريض هذه العناصر المتمركزة في إقليم كردستان لاستهداف قوات البشمركة التي حملت الميليشيات الإيرانية وعناصر البي كي كي مسؤولية التوتر في المنطقة.
كانت أنقرة اللاعب الإقليمي الأكثر انفتاحا على طهران في أحرج الأوقات التي مر بها الاقتصاد الإيراني الذي كان يواجه خطط عزله وإضعافه ومحاصرته دوليا. وكانت إيران كرد للجميل تتغاضى عن العمليات العسكرية التركية في شمالي العراق والتمدد العسكري التركي باتجاه الموصل وبعشيقه لحماية التركمان في مواجهة مجموعات داعش، وتتجاهل التنسيق السياسي والاقتصادي الواسع بين أنقرة وأربيل معولة على عرقلته ونسفه من خلال حلفائها على الأرض عند اللزوم. أما اليوم وعلى ضوء التطورات السياسية والأمنية المحلية والإقليمية المتلاحقة في العراق فاحتمال تأثر لعبة الشد والجذب التركية الإيرانية وتحولها إلى أزمة أكبر هناك هو كبير جدا.
هيمنت البرغماتية الواسعة وتبني مقولة ضرورات التنسيق والحاجة الاقتصادية المتبادلة بين تركيا وإيران والتقاء مصالحهما الإقليمية في العراق لسنوات طويلة. نجحا قبل أعوام في عرقلة المشروع الكردي الانفصالي ومواجهة النفوذ الأميركي وتبادل الخدمات في شمالي العراق. لكن عمليات إعادة التموضع التركي والإيراني في المنطقة التي بدأت تتوضح مع وصول جو بايدن إلى الحكم وقرار أنقرة مراجعة سياساتها الإقليمية خلط الأوراق مجددا في ساحة مشتركة لا يمكن التفريط بها.
كررت القيادات السياسية والعسكرية التركية تمسكها بمواصلة عملياتها الأمنية في مناطق شمالي العراق وتوسيع رقعتها ضد مواقع حزب العمال الكردستاني بعد العثور على جثث 13 مواطنا تركيا في شباط المنصرم لدى مداهمة إحدى مغاور هذه المجموعات في منطقة غارا. الرد على المواقف التركية جاء قبل غيره من طهران وحلفائها عبر انتقادات مباشرة ورفض لما تقوم به القوات التركية في شمالي العراق. دعا السفير الإيراني لدى بغداد القوات التركية لعدم تهديد وانتهاك الأراضي العراقية بقوله "لا نقبل إطلاقا بأن تتدخل تركيا أو أي دولة أخرى عسكريا في العراق". وسارع السفير التركي في بغداد للرد "السفير الإيراني آخر شخص يحق له إعطاء تركيا دروسا بشأن احترام حدود العراق".
تعرف أنقرة أن توسيع دائرة عملياتها في العراق قد يفتح الطريق أمام مواجهة عسكرية مباشرة مع الميليشيات العراقية المحسوبة على إيران وأن محاولة استهداف القاعدة العسكرية التركية في بعشيقة من قبل فصائل تابعة للحشد الشعبي في مناطق سهل نينوى، والتسبب بمقتل أحد الجنود الأتراك مؤشر على أن طهران لن تتردد في تحريك هذه المجموعات ضد القوات التركية في شمالي العراق مما استدعى ردا عسكريا فوريا واسعا من قبل المقاتلات والمدفعية التركية ضد مواقع هذه الميليشيات في رسالة تركية واضحة لإيران أن انقرة جاهزة لكل الاحتمالات.
قناعة تركية أخرى أن إيران ستستغل نفوذها في العراق ضد المصالح التركية الإقليمية وتحاول تحويل ذلك إلى ورقة استراتيجية ضدها في ملفات كثيرة تعنيها، بينها التصعيد ضد المكون التركماني والتمدد نحو إقليم كردستان العراق عبر اختراق التوازنات السياسية والحزبية القائمة هناك والوصول إلى مناطق الحدود التركية السورية العراقية. أنقرة مقتنعة أيضا أن طهران ستحاول دفع حلفائها المحليين على الأرض مثل مجموعات الحشد الشعبي التي أعلنت أنها جاهزة لمقاومة الوجود العسكري التركي وكوادر حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني الذي اتهمته تركيا دائما بدعم أنصار حزب العمال والمنفتح على القوى السياسية والحزبية العراقية التابعة لإيران، لخوض المواجهة المباشرة مع البشمركة في أربيل بهدف إلزامها بالتخلي عن تنسيقها مع أنقرة في الإقليم. إشعال الجبهات بين قوات البشمركة الكردية وعناصر حزب العمال تذكير للجميع بالحصة الإيرانية.
ما يقلق طهران اليوم هو نجاح تركيا في اختراق الحاجز الجغرافي والعرقي الذي بنته إيران ضدها في شمالي العراق ووصولها إلى الموصل وتذكيرها أنها هناك للدفاع عن حقوق تركمان العراق واحترام هويتهم ومناطق انتشارهم. هذا إلى جانب الاتفاقيات التركية العراقية الموقعة مؤخرا في أعقاب زيارة رئيس الوزراء الكاظمي إلى أنقرة والتي تشمل مساهمة تركيا في ملفات إعادة إعمار المدن العراقية وخطوة التوافق مع إقليم كردستان العراق على مسألة فتح معبر حدودي ثالث بين الطرفين، الأمر الذي سيزيد حيوية التبادل التجاري والتفاهم حول إنشاء شبكة نقل آمن للبضائع على خط إسطنبول ودول الاتحاد الأوروبي.
بين أسباب الغضب الإيراني كذلك ما وصف بالاتفاق التاريخي بين بغداد وأربيل بتشجيع تركي في مطلع تشرين الأول المنصرم حول إنهاء الوجود العسكري لمجموعات حزب العمال في سنجار والتفاهم على مشاريع استرداد السيطرة العراقية على المنطقة بعد استعادتها من يد مقاتلي داعش قبل 5 سنوات.
ما يغضب طهران أيضا هو طرح القيادات التركية في الآونة الأخيرة لخطة التقدم نحو مخيم مخمور والشروع في تصفية قياداته من خلال عمليات خاطفة ينفذها جهاز الاستخبارات التركي بالتنسيق مع القوات المسلحة داخل هذا الخط الواقع جغرافيا أمام تقاطعات بين حدود الإقليم والسلطة العراقية المركزية مما دفع إيران لاستغلال هذا الفراغ وبناء محطة توغل ونفوذ جديدة عبر المجموعات المحسوبة عليها.
بدأت حروب الوكالة التي كانت تدور بين أنقرة وطهران في شمالي العراق تأخذ بعدا ميدانيا وسياسيا جديدا ظهرت ملامحه على ضوء مواقف قيادات الميليشيات العراقية الشيعية التي تتحالف مع طهران. كل هذه التهديدات والتعبئة والحشد العسكري والسياسي لهذه المجموعات مرتبط بالتوتر المتواصل على خط سنجار – مخمور هذه المرة والذي تحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين قوات البشمركة ومجموعات حزب العمال. بيان البشمركة الكردية يدعو "لاحترام حدود الإقليم وعدم تعريض أمنه واستقراره للخطر" لكن مجموعات حزب العمال تتهم أربيل بمحاولة الدخول إلى المناطق التي تقع تحت سيطرتها معلنة أنها ستدافع عنها!
من سيقف إلى جانب من في مواجهة تركية إيرانية كانت تدور حتى الأمس القريب بشكل غير مباشر وقد تتحول هذه المرة إلى صدام سياسي عسكري واسع في شمالي العراق؟ السؤال هو ليس كيف ستتصرف طهران، بل كيف سيكون الموقف الأميركي إذا ما وقعت المواجهة بين القوات التركية وألوية الحشد الشعبي والنجباء وأهل الحق العراقية المعبأة آيديولوجيا بتمويل وتدريب وتسليح إيراني؟
هاجس التمدد التركي والتحرك الأميركي الجديد في العراق واحتمال حدوث تفاهمات تركية أميركية على حسابها هناك بدعم إقليمي هو الذي يدفع طهران للقلق ومراجعة سياساتها وتحريك مجموعاتها باتجاه السيطرة على الأرض في إقليم كردستان العراق. التفاهمات الأميركية الإيرانية المحتملة حول الملف النووي وتوابعه الإقليمية قد تدفع أنقرة والعديد من العواصم العربية والغربية لمراجعة سياساتها وحساباتها. بالمقابل الحلحلة التركية الأميركية في العلاقات المتوترة على ضوء لقاء القمة المرتقب بين الرئيسين أردوغان وبايدن قد تدفع إيران للتصعيد أكثر ضد الطرفين في أكثر من مكان وحيث ستكون للساحة العراقية الحصة الأكبر فيها. الصفقات الإقليمية المحتملة على أكثر من جبهة والتي تتشكل أمام أكثر من طاولة سياسية وأمنية هي التي ستحسم شكل المواجهة التركية الإيرانية في العراق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس