علي الصاوي - خاص ترك برس
معرفة حجم اللاعبين في أى معترك سياسي هو أحد أهم أدوات التحليل لمعرفة ما ستؤول إليه الأحداث، وأى خطأ في تقدير حجم أى لاعب سياسي في القضايا العالقة في الإقليم يؤدى إلى مخرحات خاطئة، تُعقّد من فهم ما يجري وتُصعّب من استشراف مستقبل العلاقات بين مختلف الفرقاء من الدول المتحالفة أو المتصارعة حول كعكة المصالح.
والعلاقات المصرية التركية منذ نشأتها عام 1925 على مستوى قائم بالأعمال ثم عام 1948 على مستوى تبادل السفراء وهى تتسم بدفئ دبلوماسي متوازن لا يشتد إلا ليهدأ ولا يهدأ إلا ليشتد، حتى جاء عام 2005 ووقّعت مصر مبارك اتفاقية للتجارة الحرة مع تركيا، لترفع سقف التعاون بين البلدين إلى مستوى شراكة اقتصادية، وفي 2008 وقّع البلدين مذكرة تفاهم لتحسين العلاقات العسكرية بينهما.
لكن بقدوم الربيع العربي والتزام تركيا موقف إيجابي نحوه، توتّرت العلاقات حتى بلغت قطيعة دبلوماسية نتج عنها سحب السفراء وشن حملات إعلامية ضخمة من قبل الإعلام المصري على تركيا وسياستها في المنطقة، وعلى الجانب الأخر أفسحت تركيا المجال لقنوات المعارضة تهاجم النظام بلا قيود سياسية أو مراقبة.
لكن كما هو معلوم في العلاقات الدولية أنه لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بل مصالح دائمة، وهذا ما تجلّى مؤخرا في العلاقات بين مصر وتركيا من تهدئة وعقد لقاءات استكشافية قد تُفضي لاحقا إلى تفاهمات في ملفات كثيرة عالقة بينهما أهمها ملف شرق المتوسط وليبيا، وملف المعارضة المصرية، بيد أن الأخير يُعدّ أقل قيمة من ملفات أخرى بالنسبة لتركيا، ولا يشكّل عليها أى عبء حقيقي ولا ينعكس على مصالحها الخاصة بشكل مباشر لسهولة التعاطي معه وتذيّله قائمة اهتمامها وزاد من تهميشه ضعف المعارضة، ودخولها مرحلة التشنج قبل الذبح، إلا أنه مثّل للنظام في مصر أهمية كبيرة لإسكات أى صوت يخالفه، فكان حاضرا على طاولة المفاوضات وسرعان ما تدخلت تركيا بكل سهولة وحجّمت سياسة تلك القنوات وأوقفت إعلاميين بعينهم بناء على طلب مصري، غير أن طرح إغلاقها لم يكن مُحبّزا في الفترة الحالية لمخاوف منطقية، فمن الممكن أن يخلق إغلاقها فراغ إعلامي تملأه قنوات إعلامية أخرى خارج السيطرة تزعج النظام المصري مجددا من أى مكان أخر، فكان المطلوب تقليم مخالب تلك القنوات وتركها في حالة استئناس بلا تأثير يُذكر، وسد الطريق أمام أخرين في إنشاء مشروع إعلامي مواز بسياسة جديدة تزعج النظام.
أدركت كل من مصر وتركيا أن سياسة التصعيد لن تثمر إلا مزيدا من الخسائر وإفساح المجال لدول أخرى لتحقيق مصالحها والعزف على وتر الخلاف بينهما، بل وإذكاءه أكثر ليظل نزيف الخلاف مستمرا بلا أفق سياسي يضع حدا لهذا التوتر، خاصة وأن المشترك بين تركيا ومصر أكثر بكثير مما بين مصر وخصوم تركيا.
وهذا ما لفت إليه وزير الخارخية التركي مولود جاويش أوغلو، فقال: " إن مصر تتعاون مع الجانب الخطأ " لكن اختزال مصالح مصر في شخص رأس السلطة نتج عنه تعنّت بالغ وشخصنة الأمور، واتباع سياسة عدو عدوى صديقي، كما أن التحالفات المصرية مع دول إقليمية أخرى شكّلت عائقا كبيرا أمام رغبة القاهرة في تفكيك الخلافات مع أنقرة، كون تلك الدول تقف في نفس الصف العدائي ضد مصالح الأتراك، ولها يد على النظام المصري في أكثر من حراك سياسي.
تتجنّب الدول الكبرى الصدام في حال توازنت القوى بينها، فتلجأ إلى إيجاد صيغ تعاون تبنى عليها تفاهمات تراعى مصالحها ما أمكن ذلك، من دون فرض أى رؤى تُرجّح كفة مصالح دولة عن أخرى في ملفات بعينها، وهذا ما تسعى إليه تركيا مع مصر على نار هادئة، وقد أوضح ذلك ياسين أقطاى مستشار الرئيس أردوغان حين قال:" إن أى اتفاق بين أنقرة والقاهرة في شرق المتوسط ستكون مصر المستفيد الأكبر منه، وهو اتفاق لن يستوجب تغيير أنظمة أو شروطاً أو حتى ربطه باتفاقات حول قضايا أخرى".
فالأصل في العلاقات الدولية خاصة بين الدول المشاطئة هو التعاون وتقاسم الثروات وليس الصدام، لذلك كان احترام مصر للجرف القاري التركي رسالة إيجابية أن ما زال هناك أفق مفتوح للتقارب، فمصر تدرك رقم تركيا الصعب في المعادلة الإقليمية وأن سياستها لن تهدف إلى إضرارا مصالح مصر في المتوسط، لكن اللوبي العربي والغربي الداعم للنظام المصري تأثيره أقوى من أى رغبة مصرية في تسريع عودة العلاقات، فالسيسي لا يريد غلق الباب في وجه تركيا بالمطلق، ولا يريد أن يُغضب حلفاؤه أيضا، وهذا ما اتضح على لسان سامح شكرى حين نفى وجود اتصالات مع تركيا على الصعيد الاستخباراتي بالرغم من وجودها فعلا، وذلك خشية أن يزعج حلفاء النظام.
لذلك تتأرجح العلاقة بين مد وجزر، لحين تتهيأ السياقات الإقليمية لعودتها كاملة، أما عن الاعلام المعارض في الخارج فأعتقد أن استمراره هو نوع من أنواع القصور الذاتي، وملء مساحة فارغة من أى مضمون سياسي حقيقي يؤثر على خطوات عودة العلاقات بين مصر وتركيا، ففي شرع السياسة الضعيف مهمش ومأكول، فضلا عن أن يكون عائقا أمام مصالح دول بحجم مصر وتركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس