طه عودة - العربي الجديد
لكل دولة مفهوم معين لاستراتيجية الأمن القومي، يتوافق مع قوانينها وعلاقاتها الدولية، بل وحتى إمكاناتها.. وبهذا المعنى، ليست كل الدول سواسية، إذ لا تتساوى مؤشرات (واستراتيجيات) الأمن القومي لدول عظمى، مثل أميركا والصين، تسعى إلى الهيمنة على العالم، مع تلك التي لدول ضعيفة لا حول لها ولا قوة، تعيش في غياهب التشرذمات والفوضى.
بالنسبة لتركيا، فإن كثرة الأزمات والمشكلات التي واجهتها، خصوصا في السنوات الأخيرة، وكانت في صلب التهديد المباشر للأمن القومي الاستراتيجي، وأهمها منطقة شرق الفرات الممتدة إلى حدود إيران، وتشمل العراق أيضا، وشرق البحر المتوسط، وشرق ليبيا وحتى العمليات العسكرية التي خاضتها، خصوصا ما وراء الحدود السورية والعراقية، سواء لتحييد المنظمات التي تعتبرها "إرهابية"، مثل حزب العمال الكردستاني (وحدات حماية الشعب، الكردية) أو تنظيم داعش، أكسبتها الخبرة التراكمية اللازمة، لتصبح أكثر جاهزية في صياغة وإنتاج الحلول التي تحفظ أمنها القومي مع كل أزمةٍ تمرّ بها.
ولو تمعنا جيدا في استراتيجية البحث عن الأمن القومي في إدارة الأزمات، لوجدنا أن تركيا، لا سيما في عهد رئيسها رجب طيب إردوغان، باتت على رأس اللاعبين الأفضل تقييما لمسار السياسة الدولية في ظل إدراكها حقيقة أنه لا بد من إعادة تشكيل وسائل وطرق جديدة لتنظيم الهياكل المؤسسية والوظيفية الخاصة بالأمن الوطني التركي، بحيث نجحت بامتياز في التعبير عن وجودها بشكل قوي (عسكريا ودبلوماسيا) في كل تلك المناطق، وإثبات نفسها دولة إقليمية قوية، لا تتخذ من مسألة إدارة الأزمات مجرّد شعار، بل قادرة على لعب دور مهم في المجريات الدولية ودرء المخاطر ومعالجتها.
وبفضل استراتيجية الأمن القومي الجديدة لمكافحة الإرهاب وقدراتها العسكرية فائقة التطور، تمكنت تركيا من حماية أرضها عبر محاصرة الانفصاليين الأكراد ضمن حدودٍ ضيقة لا يملكون فيها مساحة للتحرّك، فيما وضعت نصب عينيها هدف تطهير الأراضي السورية ممن تبقى منهم على المدى القصير، باعتباره ضرورة ملحّة لضمان نجاح حربها على الإرهاب.
وفي ما يخص النزاع في شرق المتوسط، والذي بدأ أولا بتوتر بين تركيا واليونان وقبرص، قبل أن يتوسع وتدخل مصر وإسرائيل، وصولا إلى الاتحاد الأوروبي على خط الأزمة، فإن تركيا أظهرت، بكل وضوح، إصرارها على حماية حقوقها الاقتصادية وعزمها التصدّي لكل من يحاول الإخلال بها وإقصاءها في هذه المنطقة الغنية بالنفط، ونجحت، إلى حد الآن، في إثبات حقيقة أن شرق المتوسط ليس المكان الذي يمكن تخطيها فيه، بل وأثبتت أيضا أن لديها من الاستراتيجية والإمكانيات القوية ما يؤهلها للوقوف أمام قوى دولية كثيرة فاعلة في قضايا عديدة، من أول سورية، شمال العراق، البحر المتوسط، وليبيا، إلى آخر الدول الأفريقية.
وبينما هناك دول ما زالت عالقة في مشكلاتها غير قادرة على درء المخاطر ومعالجتها، خرج الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أعوام، ليفعّل مصطلح إستراتيجية الأمن الوطني، ويجسّده على أرض الواقع بشكله الصحيح، مبشّرا بأن تركيا دخلت عهدا جديدا من الثراء الفكري الاستراتيجي.. عهدا من التحرّر من المفاهيم القديمة الضيقة، ونبذ التبعية، بل والاستقلال الكامل بموارد الوطن البشرية والمادية.
لقد نجحت تركيا بتوسيع مفاهيم الاستراتيجية الوطنية العليا، لتشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية، ولعل هذا ما بدا واضحا عندما أكد أردوغان، ردا على سؤال عن وضع جهاز الاستخبارات التركي الجديد، بالقول إن "جهاز الاستخبارات الوطني اليوم ليس كما كان عليه قبل عشر سنوات"، وأوضح أنه: "وبفضل تعاظم تأثير الاستخبارات الخارجية، بدأت تركيا تحتل مكانتها في كل المحافل قوة إقليمية وعالمية". وهي التصريحات التي بدت وكأنها تنذر بعهد استخباراتي جديد في تركيا، حيث سعى أردوغان، بكل قوته، إلى تطوير وإنتاج استراتيجيات جديدة قادرة على تغيير قواعد اللعبة، والتكيف بسرعة ومرونة مع التغيير العالمي، ليحول جهاز الاستخبارات التركي إلى هيكل ذي فاعلية أقوى، يحظى بالهيبة والاحترام العالمي أكثر إقليميا ودوليا.
لا يخفى على أحد أن تركيا ظلّت حليفة للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وخلال السنوات الماضية، خصوصا قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002، كانت التوجهات السياسية الداخلية والخارجية لتركيا على رباط مقدّس مع استراتيجية الأمن القومي الأميركي، وهذا لم يكن يتجسّد بالفعل فقط، بل والقول أيضا.. حيث لم تكن تركيا ما قبل أردوغان تتجرّأ على مخالفة حليفتها الأميركية أو حتى الاعتراض على سياستها. إلا أن هذه العلاقات بدأت تشهد تراجعا تاريخيا منذ عام 2003، وبالتحديد منذ الأول من مارس/ آذار 2003، عندما أظهرت حكومة أردوغان موقفا صارما تجاه مساندة العمليات العسكرية الأميركية في العراق، حيث رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأميركية بالمرور أو بالأحرى استخدام الأراضي التركية لغزو بلد جار. ومع هذا الرفض الذي تسبّب بتوتر كبير في العلاقات على خط أنقرة - واشنطن، ظهرت بوادر التحرّر التدريجي في استراتيجية الأمن القومي التركي، وإرساء توازنات أمنية داخلية وإقليمية ودولية جديدة، تمثل بحماية القيم الوطنية وتنميتها، والحفاظ على المصالح الحيوية السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية لضمان سيادة البلاد واستقلالها واحتوائها من الأخطار الخارجية والداخلية.
ولمّا كان انخراط تركيا في تحالفات كثيرة في المنطقة والعالم، واهتمامها الشديد بالتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي لتوسيع شبكة علاقاتها وأدواتها في حماية الأمن القومي أمرا استثنائيا غير عادي، بالنسبة للدول التي تعودت على رؤية صورة ضعيفة لتركيا، فإن هذا التحوّل الجذري أشعل غضبها، لتوجه كل سهامها النارية ضد أنقرة والرئيس. مع ذلك، لم تهتز تركيا (أردوغان)، ولم تتزحزح قيد أنملة عن خططها، حتى وإن كلفها الأمر عبور الحدود لحماية أمنها القومي. نعم، لقد لاحظنا، في السنوات الأخيرة، أن العقيدة الاستخباراتية الأمنية التركية لم تعد مرتبطةً بالسياسة الداخلية لأنقرة، ولا موجهة إلى جهة الداخل التركي فقط، بل مضت أبعد من ذلك لتنخرط، بشكل مباشر، في أحداث إقليمية ودولية كثيرة، قدّمها الحدث السوري والعراقي والليبي والفلسطيني والأفريقي.
وهذا الانخراط بدوره ساهم في توسيع المجال الجيوبوليتيكي الاستخباري الإقليمي والدولي لنشاط جهاز المخابرات التركي، فحدث تحوّل نوعي ووظيفي في عمله نتيجة الخبرة والمهنية المخابراتية العالية، ليصبح هذا الجهاز في تركيا ناشطا فاعلا ومنفذا إقليميا ودوليا، خصوصا بعد وصول هكان فيدان إلى الجهاز في عام 2010 والذي حددّ أكثر من أولوية في عمله، أخيرا، وقدّم توصيات نوعية لمجلس الأمن القومي التركي، من بينها: مناطق جنوب أوروبا بسبب وجود الأقليات التركية واضطرابات منطقة البلقان والصراع التركي - اليوناني حول بعض الجزر الموجودة في المياه الإقليمية الواقعة بين اليونان وتركيا. أما مناطق الشرق الأدنى (أرمينيا- أذربيجان- إيران- آسيا الوسطى)، فهي العمق الاستراتيجي للمجال الحيوي التركي. كما وركزت المخابرات التركية أيضا لدى صياغة نشاطاتها على رصد سياسة روسيا في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى، وتوريد الوقود من حوض بحر قزوين إلى الأسواق العالمية، بالإضافة إلى متابعة مصير المجتمع الدولي والمجتمعات الإقليمية ككل. وعليه، اهتمت تركيا أيضا بخلفيات النوايا الأميركية – الإسرائيلية باتجاه الحدود السورية – العراقية، وفي تشريح الأزمة اللبنانية وسط تسريباتٍ أن التطورات الجارية الجديدة في بيئة الأمن التركي أصبحت تتعارض تماما مع رغبة محور تل أبيب – واشنطن المنزعج من التوجهات الجديدة للساسة الأتراك، لهذا يعمل هذا المحور على إشعال فتيل الخلافات والتوتر والعدائية ضد تركيا، عبر وسائل وأدوات عديدة، وعبر القوة التي يمتلكها.
وعلى خلفية هذه الحقائق والمعطيات، يبدو واضحا أن جدول الأعمال الأمني التركي بدأ، خصوصا في السنوات الأخيرة، يرسم استراتيجية شاملة للأمن القومي وتحديد مسارها، واضعا في الاعتبار اختيار الأدوات المناسبة لكل نوع من الأزمات في المناطق التي توجد فيها تركيا، وصياغة الخطط اللازمة لمعالجتها والتغلب عليها، فإذا كانت تتطلب الحلول الدبلوماسية، فإن أنقرة مستعدّة لإبداء المرونة فيها. إما إذا فُرضت عليها الخيارات العسكرية، فقد أثبتت تركيا على أرض الواقع أن هذا الخيار هو دائما موجود على طاولتها إذا احتاج الأمردلك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس