ترك برس
تميزت الدولة العثمانية بدقتها في توثيق وتسجيل المعلومات والأحداث التي شهدتها، لتتحول تلك الوثائق إلى أرشيف ضخم وصل إلى يومنا الحالي، ويشمل محتواه مختلف القضايا التي تهم عشرات الدول في يومنا الحالي، والتي كانت ذات يوم ولايات عثمانية.
ويُعد اﻷرشيف العثماني من أكبر الأراشيف في العالم من حيث عدد الوثائق والمخطوطات في العالم، إذ يضم ما يزيد عن مئة وخمسين مليون وثيقة ومخطوطة.
وليسهل على الباحثين الاستفادة منها تقوم الحكومة التركية بجمعها والاعتناء بها وفرزها وتوثيقها وحوسبتها في عملية توثيقية ضخمة، بانتظار ترجمة وتحليل هذه الوثائق من قبل الباحثين.
يوجد الأرشيف العثماني في مقرّين: أحدهما في إسطنبول في منطقة كاغت هانة، ويعمل فيه 400 موظف. والثاني في أنقرة، ويضم 300 موظف. ويقوم الموظفون في كليهما بترميم وحماية الوثائق، وتبويبها وترجمتها من اللغة العثمانية إلى اللغة التركية، لإتاحتها للباحثين.
وفي هذا الإطار، سلط مقال للكاتب والباحث العراق ربيع الحافظ، الضوء على الأرشيف العثماني والدور الذي يمكن أن تلعبه في رسم مستقبل مجتمعات المنطقة.
وفيما يلي نص المقال المنشور على موقع "الجزيرة نت":
حين تلمساجتماعي أناملك لوحة مفاتيح حاسوب الأرشيف العثماني، تتملكك رهبة، فأنت على تماس مع 150 مليون وثيقة لتفاصيل الأحوال الاجتماعية لمجتمع امتد على 5 قرون و3 قارات.
غطاء عابر للزمان والمكان
هذه الوثائق هي دليلك لزيارة أي بقعة تشاء. حدد فترة الزيارة ما بين 1552 و1915، أدخل اسم المكان الذي ترغب في استكشافه: الموصل، سراييفو، صفاقس، إسطنبول، القدس، المدينة المنورة، بغداد، تبليسي، حلب، بيروت، القاهرة، دمشق، طرابلس. حدد طبيعة الاستكشاف: قيد النفوس، قيد العقار، قيد الأنساب، الأوقاف، الجوامع، الكنائس، قوانين الأحوال المدنية، القوانين التشريعية الخاصة بالأقليات، الخرائط السكانية، خرائط المدن، القبائل، المدارس، المشافي، دور الأيتام، المعونات الغذائية، الأحوال الاقتصادية، والطرق والأنهار. بإمكانك أثناء الرحلة زيارة قريب لك: جدك الأكبر مثلا الذي عاش قبل 300 أو 400 أو 500 عام، والتعرف على مهنته وتعليمه وموقعه في المجتمع، وعلى ممتلكاته، ومعرفة حقوقك الميراثية والتعرف على شتى مناحي الحياة في شريط سينمائي ملون (بألوان أطياف الحياة الاجتماعية) مدة عرضه 5 قرون.
كان أهل الموصل وصفاقس وحلب وسراييفو والقدس والقاهرة وطرابلس على مدار الأشهر والأعوام، يعدّون المعلومات ليودعوها في (خزانة الأوراق) في إسطنبول، في مشهد اجتماعي يمتد من أقصى رقعة الدولة العثمانية إلى أقصاها. المعلومات التي تصل الخزانة تتشابه رغم اختلاف المصدر (الولايات) في أعراقها، واختلاف طيفها الاجتماعي ووقوعها في قارات ثلاث. طرف من الأسباب هو انسجام نظامها الاجتماعي الذي من سماته أنه ذو قدرة استيعابية اجتماعية لا نهائية (80 قومية ومعتقدا ومذهبا) مما أعطى جميع أطياف المجتمع الإحساس بملكيته، وهو السر وراء امتداد الدولة العثمانية مدة 6 قرون، وهي أطول فترة زمنية لدولة في التاريخ.
تنقل الوثائق من الولايات إلى إسطنبول تحت حماية أمنية صارمة، ويعاقب بأقسى العقوبات من يتسبب في إضاعتها. استمر تدفق الوثائق في أزمنة السلام والحروب وحتى الأيام الأخيرة للدولة العثمانية، رغم الصعوبات الإدارية والمالية، وعندما احتل الحلفاء إسطنبول في الحرب العالمية الأولى، تم نقل الأرشيف إلى الأماكن الأكثر أمنا (مدينة قونية)، ثم أعيد بعد تحريرها.
حاول الكماليون التخلص من الأرشيف العثماني وشرعوا ببيع وثائقه كورق للتدوير لدول كبلغاريا، قبل أن يتدخل وجهاء المجتمع في إسطنبول ويوقفوا العملية. تحفظ الوثائق اليوم في خزانات معدلة الحرارة والرطوبة، وقد قامت الدولة التركية بنقل الجزء الأكبر منها إلى نسخ رقمية (digital) يمكن الوصول إليها من خلال الإنترنت.
هنا سؤال يفرض نفسه: كيف تدنو معلومات بهذا العمق عن مجتمعاتنا من درجة العدم؟ ما تداعيات ذلك على فهم الماضي ورسم المستقبل؟ وكيف يستقيم حال أي دراسة بمعزل عنها؟
عالم جديد.. صفة جديدة
بعد أن كان أرشيفا خاصا بالدولة العثمانية لخمسة قرون، خرج منها بعد الحرب العالمية وشغل الدور التوثيقي والمدني ذاته على رقعتها السابقة (على هيئة نظام الأحوال المدنية في المجتمعات العربية)، لكن هذه المرة بغياب النظام السياسي العثماني، أي كنظام اجتماعي قادر على الاستمرار على قيد الحياة خارج النظام السياسي.
هذه دلالة (مهمة ومبكرة) على بدائل لإدارة التركة الاجتماعية للدولة العثمانية، أغفلتها المدارس الفكرية القومية العربية والتركية التي قادت القرن العشرين باتجاه مختلف. الدلالة الثانية (التي اكتشفتها مجتمعاتنا متأخرا) هي أن النظام السياسي هو الذي يعجز عن القيام في غياب العقد الاجتماعي، وليس العكس، ويؤيد ذلك واقع البلدان التي سيطرت عليها المليشيات التي راحت مجتمعاتها تجدد صلتها بالأرشيف العثماني. الدلالة الأخرى هي أن دراسة وفهم مجتمعات الدول الجديدة (الولايات العثمانية السابقة) غير ممكنة سوى بالرجوع إلى الأرشيف العثماني، وبذلك تغيرت صفة الأرشيف:
أصبحت الآصرة بين الأرشيف العثماني وبين مجتمعات الدول المستقلة (الولايات العثمانية السابقة) طوعية -اجتماعية بعد أن كانت رسمية- وطنية (تخص مواطني الدولة العثمانية).
أصبح مفكرة العالم لأحداث القرون الخمسة الأخيرة.
أصبح الشاهد الذي يصطحبه المواطن إلى المحاكم في أكثر من 40 دولة، في قضايا الحقوق والممتلكات والأنساب والمواريث والنفوس.
أصبح في مطلع القرن 21 (حقبة انهيار الدولة وحكم المليشيات وتفكك المجتمعات) النسخة الاحتياطية (Backup) للأحوال الاجتماعية في البلدان التي دمرتها الحروب، إذ لجأ إليه أهلها وبلدياتها لإثبات حقوقهم المسلوبة.
التحول في صفة الأرشيف العثماني حدث بشكل تلقائي وطبيعي وفقا للقاعدة الفيزيائية "سريان التيار من منطقة الضغط العالي (الخزين الاجتماعي للأرشيف العثماني) إلى منطقة الضغط المنخفض (مجتمعات ما بعد الحرب العالمية الأولى) التي وضعتها الخرائط السياسية الجديدة خارج التغطية التوثيقية للأرشيف العثماني، في حال أشبه بحاجة الدول لسحب التيار الكهربائي من دولة مجاورة لإضاءة مدنها.
هناك تحول آخر (يبقى معنويا من دون تأثير ما لم يصحبه فعل)، هو احتكام العالم إلى الأرشيف العثماني في تسوية النزاعات بين المجتمعات، والذي يمثل مصادقة أممية على مقدرة هذا النظام على إعادة بناء المجتمعات واستعادة الحياة المدنية، وبذلك يصبح من حق هذا النظام المطالبة بممارسة هذا الدور في معقله الاجتماعي (المنطقة العربية التركية أو الشرق الأوسط)، وتقديم أوراقه الإستراتيجية أسوة بحق النظام الليبرالي في معقله في أوروبا، وحق النظام الكونفوشي في محيط الصين أو الشرق الأقصى، لكن هذا الدور يقتضي مفهوما جديدا.
مفهوم جديد
استجابة الأرشيف العثماني للاحتياجات المدنية والقضائية لمجتمعات الدول الجديدة (الولايات العثمانية سابقا) ونمط تعاملها الجديد معه، مثّل انقلابا (اجتماعيا وثقافيا) في القرن 21، لا تقل تداعياته عن الانقلاب (القومي) مطلع القرن 20. ويتجلى الاختلاف بين الانقلابين في أهم نقطتين:
مثل الأول فكرا مستوردا بتأثير خارجي (الاحتلال الإنجليزي والفرنسي)، وتنفيذا بطريقة (أعلى- أسفل)، وهو المسؤول عن إنتاج النظم الاستبدادية.
الثاني فطرة الناس في الهروب من الضار (حكم المليشيات وتفكيك المجتمع) إلى النافع (الدولة والعقد الاجتماعي)، ويمثل القاعدة الجماهيرية التي تكون مصدر أنظمة سياسية، تتكئ على عامل الجمهور أكثر من العامل الأمني، كما ظهر في تركيا إبان الانقلاب الفاشل.
عقد اجتماعي خارج العقد السياسي
ما يلجأ إليه الناس في الأرشيف العثماني اليوم هو العقد الاجتماعي (وليس النظام السياسي العثماني) الذي هو في موروثهم الاجتماعي الأرض التي ينبت فيها الإصلاح، والذي بوجوده يمكن استعادة المجتمع والحياة المدنية مهما عظم دمار الحروب.
الذاكرة الحية تؤيد ذلك، فالدول (العربية) التي نشأت من رماد الحرب العالمية الأولى وحققت وثباتا قياسيا، كانت قد انبثقت من العقد الاجتماعي العثماني (الذي ظل صامدا أثناء الحرب ووجد حاضرا عند إنشاء الدولة الجديدة)، وأكثر تلك الدول تميزا هي الجمهورية العراقية التي سقطت عام 2003 في الاحتلال الأميركي الإيراني، والجمهورية العربية السورية التي سقطت (من الناحية الواقعية) منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، مع استيلاء نظام الأقلية الطائفية النصيرية عليها، ودولة تركيا الحديثة التي نهضت من رماد الحرب وتتقدم ركب الدول الكبيرة.
وعلى العكس من ذلك، فإن انهيار العقد الاجتماعي وإحراق سجلاته (كما فعلت المليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن)، يجعل من الإصلاح مطلبا محالا، وعليه فإن أرشيف العقد الاجتماعي هو بالنسبة للمجتمع كالخريطة الهندسية بالنسبة للمدن التي ضربتها الزلازل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!