جلال خشيب - خاص ترك برس
عاشت تركيا يوم أمس حدثا سياسيا مهّما، انتخابات تشريعية عرفت منافسة طاحنة بين حوالي 20 حزبا سياسيا يسعى كلٌّ منهم إلى إيجاد موطئ قدم مؤثر في برلمان اليوم، أظهرت نتائج أولية فوز حزب العدالة التنمية (الحزب الحاكم) بنسبة 40.87% يليه حزب الشعب الجمهوري (حزب علماني) بنسبة 25.16% ثمّ حزب الحركة القومية (حزب إسلامي قومي) بنسبة 16.45% وأخيرا حزب الشعوب الديمقراطي (الحزب الكردي) الذّي صنع الحدث ودخل البرلمان التركي لأوّل مرة في تاريخ البلاد بنسبة 12.77% بعد تخطيه نسبة 10% التّي تسمح بدخول البرلمان.
أمّا نسبة المشاركة فكانت عالية تجاوزت الـ 85% وعكست كالعادة مستوى الوعي الديمقراطي للمجتمع التركي الذّي يستشعر أهمية هكذا مناسبات سياسية تصنع مصير الأوطان. نسبٌ صنعت فرحة غير مكتلمة لأنصار العدالة والتنمية في تركيا بينما أعطت أملا جديدا للأطراف المعارضة الأخرى في كسر هيمنة "الآك بارتي" على الساحة السياسية التركية منذ قرابة الـ13 سنة كاملة. فما هي العوامل الأساسية التّي ساهمت بشكل فاعل في رسم هذه الصورة بالذات؟
السياسة الخارجية التركية تجاه "الشرق الأوسط" عموما وسوريا على وجه أخص، الأزمة الكردية (كوباني وداعش)، مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا. تعّدُ في نظرنا أهم العوامل المتسبّبة في عدم تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق الفوز الساحق الذّي كان يطمح إليه ويسمح له أن يستكمل بأريحية خططه المرسومة لاسيما ما يتعلق برغبته في تعديل الدستور ووضع صلاحيات أكبر في يدّ رئيس الجمهورية.
وهي ذات العوامل التّي استثمرت فيها الأحزاب المعارضة لاسيما حزب الشعب الجمهوري رائد العلمانية في تركيا الذّي وعد بتبني سياسات حاسمة تجاه أزمة اللاجئين السوريين، إذ تستضيف تركيا قرابة 2 مليون لاجئ سوري اليوم تنفق عليهم قرابة الأربعة مليارات دولار من الخزينة التركية، الأمر الذّي من شأنه أن يثير طبعا سخط بعض المعارضين الذّين سيلجؤون حتما إلى تحميل حزب العدالة والتنمية مسؤولية ذلك ومسؤولية أي تدهور اقتصادي قد يواجه البلاد مستقبلا بسبب الأزمة بما سيحمله من سوء سيؤثر سلبا على المستوى المعيشي للمواطن التركي. أمّا حزب الشعوب الديمقراطي الكردي فقد ساهمت أزمة كوباني في شحن وإحياء النزعة القومية في مناطقه بشكل أكثر فتخطى عتبة 10 بالمائة ليدخل البرلمان لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث.
نحيّد إلى حدّ كبير تأثير العوامل الداخلية كعامل الإقتصاد، وضع التعليم، ظروف ومستوى المعيشة على نتائج الانتخابات هذه، فلم يكن لها في نظرنا دور كبير ومؤثّر هذه المرة فيما أفرزته صناديق الاقتراع وحجتنا في ذلك مقارنة بسيطة بين النسبة التّي حصل عليها حزب العدالة والتنمية سنة 2011 أي 49 بالمائة بنسبة ال 40 بالمائة التّي حصل عليها اليوم، ولا شيء أكثر ارتباطا بتاريخ 2011 من الأزمة السورية التّي اندلعت في ذات السنة وكان لها تداعيات وخيمة على تركيا أقلها أزمة اللاجئين وأكثرها حرجا تورط تركي في جوار إقليمي معقد تتقاطع فيه مصالح الأعداء وتتعادى فيه "صلات الرحم" بسبب تضارب المصالح.
فتركيا اليوم مُحاطة بجوار إقليمي معادٍ يتحيّن الفرص ليصنع فارقا ما لصالحه، اتحاد أوروبي يغلق أبوابه أمامها (وللتوجهات الفكرية لقادة العدالة والتنمية سبب في ذلك حسب رأينا)، روسيا عدوها التاريخي، دولة الكيان الصهيوني التّي لا يطمئن قادتها اليوم لتوجهات العدالة والتنمية الخارجية خلافا لمن كان قبلهم، إيران منافسها الإقليمي التقليدي الذّي تتضارب رؤاه الاستراتيجية للمنطقة مع الطرف التركي بشكل كبير، السعودية ومصر بحكم عوامل التنافس العربي التركي المعروف خاصة إذا ما دخل عامل جديد ليوجّه ساحة المنافسة بينهما ونعني بذلك حركة الإخوان المسلمين التّي تلقى دعما لا متناهيا من تركيا وعداءً لا متناهيا في المقابل من الحكومات العربية التقليدية. إذن فالأزمة السورية تُشكل اليوم ساحة تنافس بين كل الأجندات وبالتالي ما يحدث في سوريا وما تتمخض عليه الأزمة عموما من نتائج آنية أم مستقبلية سيؤثر لا محالة على الخارطة السياسية لكل تلك الدول بما فيها تركيا موضوع مقالنا هذا. ما عدا هذه العوامل الخارجية لم تشهد تركيا على المستويات الداخلية الأخرى كما أشرنا تغيّرات لافتة من شأنها أن تصنع نتيجة فارقة كنتيجة اليوم.
تركيا اليوم تعيش مفترق طرق حقيقي، ففقدان العدالة والتنمية وضع الهيمنة سيفتح الباب أمام سيناريوهات عديدة قد تشهدها البلاد أسوءها إعادة النظر في كل البرامج التنموية والتوجهات الخارجية التّي أرساها الحزب الحاكم منذ عقد ونيف، لذا فحزب العدالة والتنمية يجد نفسه اليوم مضطرا للتحالف مع أحد معارضيه واختيار أقل الحلفاء ضررا على برامجه لما لذلك من تأثير ممكن على السياسة الداخلية وكذا الخارجية للحزب والتّي عمل على ارسائها منذ 13 سنة واصطبغت بها تركيا الجديدة.
سوف تُظهر التحالفات السياسية الجديدة مستوى الحنكة السياسية التّي يتميّز بها كل طرف ونخص بالذكر قادة حزب العدالة والتنمية، كما ستعكس بالضرورة طريقة قراءة هذا الحزب للوضع الداخلي والخارجي لتركيا في هذه المرحلة الحرجة بالذات، هناك ثلاثة أطراف قوية سيضعها قادة الحزب في ميزان المصالح، التحالف مع حزب الشعب الجمهوري، مع حزب الحركة القومية أو مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.. فالتحالف مع خصمه العتيد حزب الشعب الجمهوري يبدو من الناحية النظرية والعملية أمرا مستحيلا فلا شيء سيجعل الاثنين يتقاسمان سلطة البرلمان إذا ما أخذنا في عين الاعتبار ذلك التباين الكامل في توجهات الطرفين الفكرية والسياسية تجاه أغلب القضايا الداخلية والخارجية، إلاّ إذا حدثت معجزة سياسية ما ولا قدرة لنا على التنبؤ بالمعجزات السياسية هذه الأيام.
أمّا حزب الحركة القومية فيتقاسم مع العدالة والتنمية المرجعية الإسلامية ويختلف معه في قراءاته السياسية خاصة تجاه بعض المسائل الداخلية على رأسها تعامله مع القضية الكردية التّي يرى أنّ قادة العدالة والتنمية أعطوا فيها تنازلات أكثر من اللازم للأكراد، أمّا الحزب الكردي فيستلزم منه أن يُعدّل من لهجته السياسية "القومية" ويُبدي استعدادا "وطنيا" لمنح تنازلات معينة فيما يخص قضيته الأساسية ليحظى بتحالف ممكن مع العدالة والتنمية وإن حدث ذلك فكيف سيكون وضعه أمام طائفته وكيف سيتقبّل الشعب التركي في المقابل مزيدا من المرونة السياسية تجاه الملف الكردي ومطالبه السياسية التّي تؤرق مضجعه والتّي لن يغفلها في المقابل قادة العدالة والتنمية إذا ما حظوا بتحالف متين مع الأكراد في البرلمان؟
يبدو حقا أنّ المشهد السياسي الداخلي في تركيا يتوجه شيئا فشيئا من حالة الاستقرار إلى حالة أقل ما يمكن وصفها بالاستقطاب السياسي، تحالفات سياسية داخلية في الأفق تصنعها هذه المرة قضايا خارجية صارت تقرّر مصير البلاد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس