توران قشلاقجي - القدس العربي
قد يكون 2022 العام الذي ابتعد فيه العالم فعليا عن كورونا، ووضعت خلاله خطط العودة إلى الحياة الطبيعية، إلا أن الأزمات المتتالية أظهرت مرة أخرى مدى بعدنا عن تطبيق هذه الخطط. وتعد أزمة الغذاء من أخطر الأزمات التي يواجهها العالم في الوقت الراهن. بدأت الدول تتحدث عن مصطلح «أزمة الغذاء» أكثر بعد صورة غلاف نشرتها مجلة «الإيكونوميست» وأثارت صدى واسعا على خلفية الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، لكن أزمة الغذاء لم تظهر اليوم ولن تنتهي في وقت قريب.
وقبل فترة، رفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مستوى التحذير في هذا الإطار، وقال في مايو/أيار الماضي، إن العالم قد يواجه نقص إمدادات الغذاء عالميا في الأشهر المقبلة، إذا لم تتم إعادة الصادرات الأوكرانية إلى مستويات ما قبل الحرب المتواصلة منذ 24 فبراير/شباط 2022. وأوضح غوتيريش أن هذا الصراع «يهدد بدفع عشرات الملايين من الناس إلى حافة انعدام الأمن الغذائي، وما يترتب عليه من سوء التغذية وجوع جماعي، بل ومجاعة».
ويتوقع برنامج الغذاء العالمي أن نحو 49 مليون شخص يواجهون مستويات حرجة من الجوع، كما تشير البيانات إلى أن 811 مليون شخص ينامون جوعى كل ليلة. وعلى سبيل المثال، بات عدد الأشخاص الذين هم على شفا المجاعة في منطقة الساحل في افريقيا أعلى 10 أضعاف على الأقل مما كان عليه العدد قبل وباء كورونا. وقادت تركيا عملية مكثفة انتهت بتوقيع اتفاق مهم للغاية بين أوكرانيا وروسيا. وشغل الاتفاق حيزا كبيرا جدا في الإعلام العالمي، نظرا للمرحلة الحرجة التي أبرم فيها، من حيث «أزمة الغذاء». وكان هذا الاتفاق هو الأول بين الطرفين المتحاربين منذ اندلاع الاشتباكات في 24 فبراير الماضي. لقد احتضنت إسطنبول في 22 يوليو/تموز الجاري، مراسم برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، للتوقيع على «وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية» بين تركيا وروسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة.
وهذا الاتفاق الذي أطلق عليه أيضا اسم «ممر الحبوب»، ينص على إعادة فتح الموانئ الأوكرانية وشحن أكثر من 20 مليون طن من الحبوب إلى مناطق مختلفة من العالم. وتجدر الإشارة إلى أن الجهود الحازمة التي بذلها الرئيس التركي أردوغان كان لها دور كبير في هذا الصدد. وتناول الإعلام العالمي هذا التطور على أنه انتصار دبلوماسي كبير لصالح تركيا، وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش عن شكره للرئيس أردوغان عقب التوقيع على الاتفاق. لا شك في أن إنشاء «ممر الحبوب» يعد من أكثر التطورات الباعثة للأمل منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية. لكن لا يزال الطريق طويلا للوصول إلى وقف إطلاق النار أولا ومن ثم السلام. وستواصل تركيا القيام بمبادرات دبلوماسية جديدة في هذا الاتجاه، وقد قال الرئيس أردوغان خلال مراسم التوقيع على الاتفاق إنه «لا منتصر في هذه الحرب»، داعيا إلى إحلال «سلام عادل». لكن مع الأسف لا نلاحظ مؤشرات على السلام في المدى القريب، عند النظر إلى قوة وإصرار الأطراف على استمرار الحرب.
الغزو الروسي لأوكرانيا ورد فعل الغرب عليه، لا يشكلان مجرد «حرب أو أزمة أمنية في أوروبا»، بل في الواقع هناك بيئة دولية جديدة تتشكل بعد هذا الغزو. ويقال إن أزمات الطاقة والغذاء والسلع الأساسية تقود إلى ركود عالمي، والأهم من ذلك، هناك ادعاءات بأن حربا باردة جديدة قد بدأت بين الغرب وروسيا. ويؤكد البعض أن الهيمنة الغربية قد انتهت، وأن المنافسة الجديدة بين القوى العظمى تجري في بيئة متعددة الأقطاب. تركيا بقيادة أردوغان هي واحدة من أكثر الدول استعدادا للبيئة الدولية المليئة بالمنافسات الغامضة ومتعددة الأطراف. وطرأ أكبر تحول في السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الخمس أو الست الماضية، على طريقة التعامل مع الأزمات الإقليمية والعالمية. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، نجحت الدبلوماسية التركية والنتيجة التي حققتها بافتتاح ممر الحبوب، في جذبت انتباه جميع عواصم العالم، لكننا رأينا أن الدور الاستثنائي للرئيس أردوغان في التوصل إلى اتفاق الحبوب قوبل بالحسد والغيرة في بعض العواصم مثل باريس وبرلين.
خلاصة الكلام؛ في خضم الآلام الناجمة عن تشكل العالم متعدد الأقطاب، من الواضح جدا أن العالم الحالي سيواجه أزمات واسعة النطاق في المرحلة المقبلة. والعديد من المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، تتوقع موت ملايين الأشخاص بسبب هذه الأزمات. ويجب على الدول القوية أن تبذل جهودا لحماية الشعوب من هذه الأزمات المقبلة. وفي هذا الصدد، تقدم تركيا نموذجا مشرقا للغاية عبر علاقاتها الثنائية مع أذربيجان وقطر، وهي بهذه الطريقة، تظهر للمتخاصمين أيضا مدى قيمة الصداقة. كما أنها تستطيع الحفاظ على توازن التعاون والمنافسة مع قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس