خلود الخميس - الأنباء الكويتية
وكأنه اشترى مقعداً في الصف الأول في تاريخ «الإدارة السياسية الأخلاقية» بمحافظته على نزاهته وقيَمه، بمقابل خسارة عدد من المقاعد في البرلمان والإصرار على أن يكون قدوة في العمل السياسي لغيره.
فيا له من ثمن بخس لتصدُّر المشهد لقرون لاحقة وليكتبه التاريخ انموذجاً للمنافسة بشرف وسط بيئة سياسية فاسدة عالمياً وإقليمياً وقرب حدوده بكل المقاييس، وهذا ما قاله رئيسه أحمد داود أوغلو في خطاب النصر من الشرفة: « إننا لا نقيس النجاح بالسنين بل بالقرون» وقليلون يفهمون رسالته.
فبالرغم من فقدان العدالة والتنمية 18 مقعداً من المقاعد في البرلمان، يفوز حزب العدالة والتنمية للمرة الرابعة على التوالي بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية، ولكن تتجه تركيا للمرة الأولى لتشكيل حكومة ائتلافية.
وبمرور سريع على الأرقام الأخيرة نجد: فوز حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول بنسبة 40.86% يمنحه 258 مقعداً في البرلمان. حصول حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي) على 24.96% ومنحه 132 مقعداً. حزب الحركة القومية حصد 16.29% وله 80 مقعداً.
أما الفائز الرابع فهو حزب الأقلية الكردية وللمرة الأولى، حيث تعدى حزب الشعوب الديموقراطي عتبة 10% إلى 13.12% ما أهّله للحصول على ثمانين مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها 550، وهذا النجاح بلا أدنى شك أحد إنجازات الحزب الحاكم ونتاج جهده الحثيث في ترسيخ المصالحة الوطنية والعمل بجهد كبير على نزع سلاح منظمة «بي كا كا» المصنفة إرهابية واجتماعات ماراثونية قاد ملفها رجب طيب أردوغان منذ أن كان رئيساً للوزراء وخلال اثني عشر عاماً ومعه ذراعه هاكان فيدان رئيس الاستخبارات. ولحكومة أردوغان ورئاسته الفضل في الإنجاز فيما يتعلق بملف أكراد تركيا وتحول قناعاتهم بتغيير وسيلة مشاركتهم في المجتمع والحصول على حقوقهم من الجبال إلى مقاعد البرلمان.
الأمر الذي شجع كثيرا من الأكراد وعلى رأسهم عبدالله أوجلان زعيمهم، على التواصي بإلقاء السلاح والتغيير عبر الوسائل القانونية السلمية وهي السياسة وبالفعل منحت حملة العدالة والتنمية للمصالحة الوطنية حزب الشعوب الديموقراطي ثمانين مقعداً في البرلمان، وكان ذلك على حساب مقاعده.
إنها المرة الأولى التي تتراجع فيها نسبة التصويت للحزب السياسي الحاكم منذ تقلده سدة الحكم قبل اثني عشر عاماً، الأمر الذي سيؤثر على تشكيل الحكومة الثالثة والستين في تاريخ الجمهورية من حكومة تضامن من حزب العدالة والتنمية إلى حكومة توافقية من الأحزاب الأربع الفائزة.
وهنا المعضلة السياسية المقبلة والتي قد تؤثر على الاقتصاد التركي للخمس وأربعين يوماً المقبلة وهي المدة التي بعدها يحق للرئيس الدعوة لانتخابات مبكرة في حال عدم تشكيل حكومة ائتلاف. وحتى نتناول الخيارات سنتناول ظروفها، فبعد إعلان النتائج، حدث المضحك المبكي، صرح رئيس حزب الشعوب الديموقراطي صلاح الدين ديمر بعدم استعداد حزبه لتشكيل حكومة توافقية مع حزب العدالة والتنمية!
الحكومة بقيادة العدالة والتنمية اهتمت بملف المصالحة الوطنية وأعادت للأكراد حقوقهم المسلوبة وسمحت لهم بالدعاية الانتخابية بلغتهم وفتح قنوات فضائية وكذلك الدراسة وحتى القرآن، فقد طبعت هيئة الشؤون الدينية مصاحف باللغة الكردية، وماذا بعد لإثبات حسن النوايا؟
لم يكن لدى العدالة والتنمية أي رغبة في أن يستمر الأكراد حَمَلة سلاح مطارَدون في الجبال مشردون في وطنهم يُعاملون كطبقة لا تستحق الاحترام من نخبة فاسدة، وما أن تعدوا عتبة دخول البرلمان كحزب، اعتبروا من دعم حقوقهم العدو، وشخصياً أظن أن موقف الحكومة برفض دخول فخ الحرب الكيدية في كوباني (عين العرب) أدى لموقف عوام الكرد ضدها وحبكها الساسة، رغم أنها استضافت الفارين وسلحت المقاتلين، ولكن لم تشارك كدولة.
فما القصد من تصريح دميرطاش الطائش!؟
ولكن تبقى الاحتمالات واردة بالعودة عن التصريح، وتظل هناك خيارات متغيرة في السياسة، أحدها تشكيل حكومة ائتلاف من الأحزاب الفائزة، أو تشكيل حكومة أقلية من حزب العدالة والتنمية، وهذا مستبعد، ولنستذكر أن كل ما يحتاجه العادلة والتنمية 18 صوتاً فقط، أو الانتخابات المبكرة.
والخيار الأخير وإن كان دستورياً ومتاحاً، إلا أن هناك سببا بعيدا عن «السياسية» تجعله طريقاً غير مرغوب، مثل رغبة أي نائب فائز في مقعد في البرلمان أن يكمل فترة العامين ليستحق الراتب التقاعدي، فهذه جزئية تهم كل عضو في الأحزاب المختلفة وقد تكون سبباً جيداً في التعاون لتشكيل حكومة ائتلافية وتبطئ من الاستجابة لنداءات خيار الانتخابات المبكرة.
الحكومات الائتلافية معضلة في الإدارة السياسية لأي دولة، فهي بديل وليست خيارا أصيلا، ومعروف أنها لا تحقق الاستقرار في الحكومة، لعدم تجانس القيم وتضارب المصالح وتباين الأولويات وتعارض الأهداف.
ويبدو أن مشروع حزب العدالة والتنمية كان مثل مثلث برمودا، تسبب في خسائر موجعة، سياسياً، لشعبيته، وأضلاع ذاك المثلث: المصالحة الوطنية، تغيير الدستور والتحول للنظام الرئاسي.
لتكتمل الصورة عند القارئ سأعرض نبذة عن الأنظمة «البرلماني والرئاسي والنصف رئاسي»: بالنسبة للنظام البرلماني فبريطانيا هي «أمه» التي أنجبته للعالم، ثم انتقل المولود إلى القارة الاوروبية في القرن التاسع عشر ودُقت أوتاده في فرنسا بين (1814-1840م) وكانت آنذاك تحت الحكم الملكي، واعتمدته بلجيكا عام (1831م) وهولندا في نهاية القرن التاسع عشر، والنرويج والدنمرك والسويد بين عامي (1900م-1914م) وفي العام 1875م استقر في فرنسا كأول دولة في العالم الجمهورية البرلمانية.
وفيه الوزارة هي المحور الرئيس الفاعل في السلطة التنفيذية، هي تتولى العبء الأساسي وتتحمل المسؤولية دون سلب رئيس الدولة حق ممارسة بعض الاختصاصات كما في بعض الدساتير البرلمانية في السلطة التشريعية أو التنفيذية، شرط أن يتم ذلك بواسطة وزارته بتوقيع الوزراء المعنيين الى جانبه على القرارات المتعلقة بشؤون الحكم بالإضافة لصلاحية حضور رئيس الدولة اثناء اجتماعات مجلس الوزراء مع عدم احتساب صوته، ويسمى المجلس مجلسا لوزراء اذا انعقد برئاسة رئيس الدولة ويسمى بالوزاري اذا انعقد برئاسة رئيس الوزراء.
في النظام البرلماني، يعين رئيس الدولة رئيس الوزراء والوزراء ويقيلهم وهذا الحق مقيد بضرورة اختيارهم من حزب الأغلبية في البرلمان ولو بعدم موافقته، فالبرلمان هو الذي يمنح الثقة للحكومة وتختلف الحكومات في النظام البرلماني بقوة أعضائها والأحزاب المشتركة في الائتلاف حيث تسود الثنائية الحزبية عند وجود التكتلات المتوازنة في البرلمان.
كذلك يدعو في النظام البرلماني رئيس الدولة لإجراء الانتخابات النيابية بعد حل المجلس النيابي قبل انتهاء فترته أو عند انتهاء الفترة القانونية، وبعض الدساتير تمنح لرئيس الدولة الحق في التعيين في المجلس النيابي أومجلس الشورى أو حل البرلمان.
أما النظام الرئاسي، فالولايات المتحدة الأميركية هي أكبر نموذج يطبقه، ويحصر السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب ويقوم على الفصل «الشديد» بين السلطات، فالرئيس منوطة به السلطة التنفيذية، ولا توجد قرارات تخرج عن غير ارادته.
أستذكر مقولة الرئيس الأمريكي «لنكولن» الشهيرة عندما دعا مساعديه، الوزراء، لاجتماع وكان عددهم سبعة واجتمعوا على رأي مخالف لرأيه فرد عليهم بمقولته الشهيرة «سبعة لا، واحد نعم، ونعم هي التي تغلب».
فرئيس الدولة في أميركا هو صاحب السلطة الفعلية والقانونية للسلطة التنفيذية على المستوى الوطني كحماية الدستور وتطبيق القوانين واقتراح مشروعات القوانين ودعوة الكونجرس الى عقد دورات استثنائية وتوجيه رسائل شفوية للكونجرس وتعيين كبار القضاة وتعيين المساعدين، وهم الوزراء، وكبار الموظفين، وعلى المستوى الدولي أيضاً، فالرئيس هو المسؤول بصورة أساسية عن علاقات الولايات المتحدة الامريكية بالدول الاجنبية وهو الذي يعين السفراء والقناصل ويستقبل السفراء الاجانب ويجري الاتصالات الرسمية بحكوماتهم.
لذلك اصبح من المهم جداً في الانظمة الجمهورية التقيد دستورياً في النظام الرئاسي أن يتولى الشعب انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع العام سواء كان مباشراً او غير مباشر، ومن هنا تأتي مكانة وقوة رئيس الدولة التي يتساوى فيها مع البرلمان شرعيته الديمقراطية والشعبية، وهذا أول ما فعله أردوغان بأن أعطى الشعب حق اختيار الرئيس بالاقتراع العام المباشر، ولكن يبدو أن أشرعته ليست مستعدة بعد للإبحار في النظام الرئاسي كاملاً فلم يمنح العدالة والتنمية المقاعد التي تؤهله لتبني هذا المشروع.
أيضاً لدينا النظام نصف الرئاسي، وهناك سبعة دساتير نصف رئاسية، منها فرنسا، حيث رئيس الدولة دوره منظم أكثر منه حاكما، يمكنه إعادة القوانين للبرلمان لدراستها من جديد ويمكنه حل الجمعية الوطنية (فرنسا) واللجوء لاستفتاء واختيار رئيس الوزراء القادر على الحصول على دعم الأغلبية البرلمانية، ولكنه لا يشارك بنفسه كرئيس في التشريع والحكم إلا في حالتين: تعيين كبار الموظفين وفي ظروف استثنائية.
مثال: في ايرلندا سلطات الرئيس ضعيفة جداً فلا يمكنه أن يقرر وحده دون موافقة رئيس الوزراء إلا عندما يطلب من المحكمة العليا التحقق من دستورية قانون صوّت عليه البرلمان أو عندما يدعو أحد المجلسين أو كلاهما للانعقاد في جلسة غير اعتيادية أو لتوجيه رسالة للنواب وأعضاء مجلس الشيوخ ويملك صلاحية الإعاقة لرفض الحل الذي يطالبه به رئيس الوزراء واللجوء لاستفتاء تطلبه أغلبية مجلس الشيوخ وثلث مجلس النواب وهذه السلطات لا تعطي نفوذاً سياسياً لكنها تتجاوز وضعيته كرئيس دولة رمزي بحت.
وحقيقة، أرى أن الدور الشرفي لرئيس الدولة في النظام البرلماني، وهو المتبع في تركيا، لا يتلاءم مع شخصية رئيسها رجب طيب أردوغان الملتحمة في العمل التنفيذي للدولة حتى النخاع، ولا ريب أنه يطالب الشعوب بإقرار التحول للنظام الرئاسي الذي يمنح الرئيس صلاحيات.
وفي خضم أصوات ترجع انخفاض شعبية العدالة والتنمية لدكتاتورية أردوغان، ساق لنا القدر يوم الاثنين الماضي حدثاً جيداً للمقارنة : حيث خيّر ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا وزراءه بين دعم خطته لعضوية الاتحاد الأوروبي والاستقالة، رغم أن خمسين نائباً من حزب المحافظين، الذي يرأسه، مؤيدون لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولكن لم نسمع أصواتا تكرر بأنه سلطوي وديكتاتوري، بينما تكررت تلك الأوصاف ضد أردوغان، بغضاً في شخصه لا ثقة في صدق تلك التهم.
واللافت في هذه الانتخابات التي حملت المفاجآت أن الرابح الأكبر في الانتخابات التركية البرلمانية النساء فقد حصلن على 18% من المقاعد ولأول مرة، فمن العدالة والتنمية فازت 42 امرأة، والشعوب الديموقراطي 31، والشعوب الجمهوري 21، والحركة القومية 4.
وأخيراً، فقد تابعت حفلات «زار الشماتة» الإعلامية وأظنها مكلفة لخزائن بعض الدول، ولن أتكلم عن الصحف العربية التي نفهم محركاتها جيداً، ولكن سأشير إلى حقيقة ان الذي شاركها في الاحتفال بهبوط نسبة أصوات الإسلاميين في تركيا الصحف الصهيونية والنصرانية.
ومثال ما اتخذته صحيفة إيطالية عناوين لها، وهي تعبر عن استفزاز مراهِق، بأن نزول نسبة العدالة والتنمية «صفعة في وجه السلطان» «وأوقف قطار صلاح الدين الأيوبي الألفية الثالثة» و«الكردي نظيف الوجه الذي يرتدي قميصاً أبيض يدخل البرلمان للمرة الأولى ويحطم كِبر السلطان» ووصفت الصحيفة دميرطاش بالشخصية الهادئة التي تدافع عن الأقليات والنساء والمثليين!
هكذا تشابهت قلوب أعداء الأمة بالغيظ، وصار الدفاع عن الشواذ مُدحة لا مثلبة!
حجم النصر المزيف على التيار الإسلامي في تركيا الذي يدّعيه ويحتفل به العلمانيون والعلويون والأكراد والقوميون، ومعهم ليبرالية وإمعات العرب والخليج، بحد ذاته يكفي لأن نعرف ما حجم وأهمية وتأثير دور حزب العدالة والتنمية ليس على تركيا فحسب، بل على الأمة الإسلامية قاطبة.
فالفرحة بخسارته الطفيفة وهو ما زال الفائز الأول، أنطقت جيران الفاتيكان بما ينضح وفاض من آنياتهم، تلك البهجة سببها الخوف من عودة الشوكة الإسلامية والتي تقف لها أجراس الكنائس صامتة رهبة، ويتبوّل البعض رعباً بمجرد ذكرها.
أقول للعدالة والتنمية : لا بأس، فالسهم حتى ينطلق بقوة إلى الأمام يجب أن يتراجع بذات القوة للخلف، وبانتظار انطلاقه بقوة تليق بمشروع نهضة الأمة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس