ترك برس
سرّع الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي، قبل شهرين، من وتيرة التقارب في العلاقات بين تركيا ومصر، حيث تبادل وزيرا خارجية البلدين الزيارات، فيما تترقب الأنظار لقاء يجمع رئيسي البلدين، في مشهد يطرح تساؤلات حول دوافع التطبيع بين أنقرة والقاهرة بعد قطيعة سياسية امتدت لقرابة عقد كامل.
تقرير نشره مركز دراسات الشرق الأوسط "أورسام"، ذكر أن زيارة وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو إلى القاهرة، في 18 مارس 2023، كشفت عن تلاقى إرادة البلدين على تطبيع العلاقات، بعد أن مرت بمرحلة توتر لم تكن مناسبة لهذين البلدين الكبيرين، اللذين يلتقيان، ليس فقط في محطات كبرى من التاريخ، وإنما تجمعهما محطات كثيرة من المصالح في الحاضر والمستقبل وبشكل عام. كثافة الاتصال السياسي بين مصر وتركيا، تثير النقاش حول روافع الانتقال في العلاقات الثنائية والقدرة على فتح آفاق الاعتماد المتبادل والتعاون الإقليمي.
نحو بناء العلاقات الثنائية
بتحليل الخطاب المشترك في المؤتمر الصحفي الذي عُقد على هامش تلك الزيارة، يمكن ملاحظة وجود محاور للتعاون، تم الحديث عنها بوضوح في المؤتمر الصحفي. وخصوصاً ما يتعلق بالتحديات المشتركة، وذلك استناداً لتفويض من رئيسي البلدين للتطبيع الكامل بما يكافئ أهمية العلاقات. ووفق الإعلانات الرسمية، العلاقات بين البلدين تستمد أهميتها من أواصر التواصل الثقافي بينهما، بوصفها أرضية تاريخية صلبة حالت دون قطع العلاقات، وأن هنالك حالياً توجهات من البلدين لأعتماد الشفافية كقاعدة لتطوير المصالح المشتركة، وتحويلها لواقع من خلال تواصل التنسيق بين الأجهزة، بالإضافة لتحسين التفاهم حول المشكلات الإقليمية. ويأتي هذا اللقاء تطويراً للمحادثات الاستكشافية السابقة التي عقدت بين البلدين، ثم لقاء وزيري الخارجية في "أضنة" بتركيا، لتكشف وجود رغبة مشتركة في استكمال التمثيل الديبلوماسي الكامل.
تناولت صحف القاهرة المباحثات التي أجراها وزيرا الخارجية (سامح شكري وتشاويش أوغلو)، باهتمام وعلى نطاق واسع، وركزت تلك الصحف على قضايا العلاقات الثنائية، والأوضاع الإقليمية، والتحديات المشتركة، إلى جانب الأمل بانفتاح أكبر في مجالات التعاون السياسي، والاقتصادي، العسكري والثقافي. وأشارت الصحف المصرية إلى أنه خلال زيارة تشاويش أوغلو الأخيرة للقاهرة تم بحث عددٍ من القضايا الإقليمية المتصلة بالقضية الفلسطينية وسوريا وليبيا والعراق والاتفاق الإيراني السعودي، وفقاً لما صرح به الوزير شكري.
وتضمنت التغطية الإعلامية لتلك الزيارة إشارات متكررة لغلبة كثافة المصالح على الخلافات السياسية على المستوى الإقليمي. وساعد مرور البلدين بتجارب متماثلة في مكافحة كوفيد 19 والحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة لكارثة زلازل تركيا على التقارب السياسي والإنساني. فعلى الرغم من كونها أحداثاً طارئة أو طبيعية، فإنها كشفت عن الحاجة للتكامل وإعادة تقييم السنوات الماضية والحفاظ على القدرات وتوظيفها لأجل التنمية والسلام.
وحسب مقالات الرأي في الأهرام، عبرت الزيارة عن تلاقي إرادة البلدين على تطبيع العلاقات، بعد مرورها بتوترات كثيرة، وشغل البعد التاريخي جزءاً ملموساً من التغطية الإعلامية، حيث تتابعت الإشارات لتاريخية العلاقات. وحديثاً، شارك البلدان في تأسيس مجموعة الثماني النامية في 1997، وكانت ركيزة لضم إندونيسيا، باكستان، إيران، نيجيريا، ماليزيا وبنجلاديش، لأجل دعم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وتشكل هذه التجربة قاعدة للطموح المشترك وبناء علاقات تفضيلية. وفي هذا السياق، اعتبرت عودة التواصل السياسي بين البلدين تعبيراً عن رسوخ العلاقات التاريخية مقارنة بهامشية التوتر الذي ساد في السنوات الماضية، حيث تمثل كثافة المصالح عاملاً مركزياً في علاقات البلدين الثنائية والإقليمية، فضلاً عن تبادل احترام الشؤون الداخلية.
وعلى المستوى الاقتصادي، وفي سياق التأثير المتبادل بين هيكل التجارة الخارجية والعلاقات السياسية، شكل استمرار حجم التبادل ونمو معدلاته، خلال السنوات الماضية رافعاً لمراجعة الأبعاد السياسية. فقد شغلت التجارة البينية حيزاً مهماً في التفاعل بين البلدين، بحيث صارت تشكل أساساً للتعاون. وتتمثل مُحفزات التجارة بين البلدين في تنوع السلع والخدمات المطلوبة للتبادل التجاري. وبحسب بيانات عام 2022، فأن حجم التجارة البينية بين البلدين قد تزايد بمعدل 14% وأن الصادرات المصرية لتركيا ارتفعت بنسبة 32.3%.
وبغض النظر عن معدلات السير في برامج التنمية، توفر الخصائص الطبيعية أرضية مناسبة للفرص الاقتصادية، وخصوصاً ما يتعلق بالشراكات الثنائية والعابرة للإقليم وأفريقيا. ويتضافر التوسّع الصناعي في تركيا والنمو المتسارع للبنية الأساسية في مصر في تحفيز شبكة من العلاقات الاقتصادية وتبادل الخبرات والاستثمار في الصناعة أو الزراعة.
روافع التقارب السياسي
وبشكل عام، يتوقف تحويل التطلعات إلى سياسات على مدى توافر المقومات اللازمة لعلاقات مستقرة، وكيفية التعامل مع المشكلات الإقليمية والدولية وبناء المجال الحيوي المشترك. ترتبط روافع التقارب والتساند بين الدولتين بالقدرة على التكيف مع المشكلات الإقليمية والدولية والتلاقي على المجال الحيوي وللوصول لحالة توازن وخفض فجوة القوة مع الفاعلين الدوليين، بحيث تؤدي لتكامل السياسة الخارجية.
وفي هذا السياق، يوفر تقارب التاريخ السياسي ـ الاجتماعي في البلدين فرصة ترتكز على ثلاثة أبعاد رئيسة، هي؛ الثقافي، الاجتماعي والتأثير المتبادل. ويمثل الميراث التاريخي مُختبراً لفاعلية الروابط الثقافية والاجتماعية بين البلدين في تحييد آثار التغير السياسي، وهنا، تبرز خاصيتان، تتعلق باستدعاء الميراث السلبي، وانخفاض قدرة السمات الفكرية على تقديم حلول للمشكلات القائمة. فخلال العقد الماضي، توترت العلاقات الثنائية لأسباب عارضة ما دون الدولة، وساهمت في خفض تأثير البلدين على الساحة الإقليمية.
كما يعمل تقارب الخبرة البيروقراطية على فاعلية التواصل بين الأجهزة الحكومية في تفعيل التعاون بين البلدين، ووفق منظور الفائض والعجز، هنالك حاجة إلى تصور عن فرصة الوصول للتكامل الاقتصادي والميزات النسبية والمعاملة التفضيلية. تدفع التحديات الراهنة البلدين باتجاه تبني سياسات الوصول للتكامل. ويمكن الاسترشاد بإنموذج العلاقات المصرية ـ القطرية في تفويض الجهات الحكومية في رعاية المصالح المختلفة.
يساعد تمتع مصر وتركيا بميزات الموقع والسكان، بالإضافة لأمور أخرى على تساند نطاق المجال الحيوي لكل منهما. وفقاً للتعريفات التقليدية، تمثل منطقة الشرق الأوسط منطقة مصالح مشتركة، تشمل العالمين العربي والتركي، وهي كتلة تاريخية متجانسة الثقافة ومتقاربة الاجتماع. ومع استقرار اجتماعات منظمة العالم التركي ومحاولات تحسين أداء الجامعة العربية، تتكون أرضية تنظيمية يمكن الانطلاق من خلالها. ولعل إعادة إحياء مبادرة الجوار العربي، يمكنها تَلَمس مسارات واسعة للتعاون فوق الإقليمي.
ويُعد انفتاح العلاقات الإقليمية من الروافع التي تساعد على إعادة النظر في المواقف المشتركة تجاه سياسات إسرائيل وطرح بدائل لمشروع النقب بتصوراته الأمريكية. وفي هذا السياق، تأتي مراجعة العلاقات التركية ـ المصرية خطوة لتجاوز مرحلة التباعد الإقليمي وبدء مرحلة أخرى تقوم على التنسيق تجاه مخاطر للأمن المشترك. ولذلك، ظهر تَحَسّن في الانتقال من التوتر لتكون التطلعات الاستراتيجية القاسم المشترك لاجتماعات العواصم المختلفة، حيث انشغلت بالإقلاع عن التوتراتٍ التي سادت العقد الماضي.
وبهذا المعنى، يمكن تناول ملف الأمن الإقليمي محل نظر، ليس لطبيعة ثنائية، بل لتعدد الأطراف الإقليمية والدولية، ما يحتاج لتنسيق أو الاضطلاع بدور مؤثر في الترتيبات السياسية والأمنية. ويمكن النظر للاتفاق السعودي ـ الإيراني من وجهة التحول في التكتل الإقليمي وتعزيز تطلعات حل الصراع ووقف التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يتلاقى مع التموضع التركي لدعم الأمن الإقليمي، وبشكل يتقارب مع مبادرة "رابطة الجوار العربي" في قمة سرت (ليبيا) العربية في 2010.
وتساعد العوامل الثقافية والسكانية على تخفيف حدة العلاقات غير المتكافئة. ويُعد تجنب البلدين للعقوبات ضد روسيا من السياسات المهمة في خفض الهيمنة الغربية. وهنا، تبدو توجهات الحياد تجاه الحرب الجارية ومراجعة سياسات التجارة والطاقة، ولذلك، يعمل تنسيق السياسة الخارجية على زيادة فاعلية البلدين في التغيرات الجارية والمساهمة في تشكيلها.
ومع تصاعد احتمالات التغير في النظام الدولي، ظهرت قدرة البلدين على التكيف مع المطالب الجديدة. بدأت هذه المرحلة بفتح قنوات الاتصال والتفاهم على تسوية المشكلات العالقة، والتوجه نحو بناء القدرات الشاملة، بجانب التلاقي على محاربة الإرهاب ورفض التدخلات الخارجية. ويمثل سعي البلدين للحياد تجاه الحرب الروسية ـ الأوكرانية عاملاً مُعززاً لبناء سياسات مشتركة. فمن وجهة أساسية، تتلاقى السياسة الخارجية للبلدين على اعتبار العقوبات الغربية ضد روسيا غير قانونية، ولذلك، بدت مواقف متقاربة في الأمم المتحدة لمعالجة آثار العقوبات، فقد قامت تركيا بالتوسط لصياغة اتفاقية مؤقتة لفتح تجارة الحبوب في الأمم المتحدة، بحيث يتم تجديدها كل ستة أشهر للتخفيف من حدة أزمة السلع الغذائية وارتفاع أسعارها. وكما أنه من وجهة أخرى، فقد استمرت تركيا في تسيير التجارة مع روسيا وأوكرانيا، سواء بشكل ثنائي أو تحت مظلة تسهيلات نقل القمح الروسي وتمديده لفترات متتالية، ما يعزز المصالح الثنائية.
وحسب الموقف المصري، أنه هذه الحرب تحولت لعبء، وخصوصاً مع الضغط الأمريكي-الغربي لإلزام مصر بالعقوبات على روسيا، دون توفير بدائل مستقلة أو ميزات تفضيلية كما تقدمها روسيا لمصر، سواء من حيث الامداد او الأسعار. وبينما ارتبك السوق الدولي لتجارة الحبوب، فقد حصلت مصر على ميزات تفضيلية كَمية وسِعرية من روسيا، فضلاً عن تجنب الطلب على الدولار لأجل الشراء. من هذه الوجهة، فإن وجود تركيا وسيطاً لتمديد صادرات القمح الروسي والأوكراني، سوف يعمل على زيادة المصالح المشتركة بين مصر وتركيا.
المجال الحيوي والأمن الإقليمي
خلال السنوات السابقة، ظهرت خلافات بين البلدين حول ملفي سوريا وليبيا، تحت القلق من التدخل، بالإضافة للخلاف حول ترسيم الحدود البحرية. فقد اختلطت هذه المشكلات بالأبعاد الأمنية، وتم الترويج لها بوصفها تهديداً للأمن القومي للطرف الأخر، غير أن حقيقة الأمر، هي أن الفراغ الأمني في سوريا نتج عن التدخل الدولي في هذه الأزمة، وفي ليبيا، ارتبطت تطورات الأزمة أيضاً بالتدخل الدولي، كما تأثرت بفائض العنف لدى جماعات التطرّف.
وبعد مرو عقد تقريباً، اتجهت تركيا للانخراط في تسوية كل المشكلات الإقليمية، فعلى الجانب السوري، شاركت في مشاورات رباعية (روسيا، تركيا، إيران وسوريا) لتحديد مستقبل سوريا على أساس وحدة الدولة وإعادة تأهيلها لتتجاوز فجوة أمنية يتعدى أثرها النطاق الإقليمي، وفي هذا السياق، يعزز الانفتاح الإقليمي على سوريا التوجه نحو تحويل الصراع في أصعب ملفات الأمن والدفاع في المنطقة، وهي خطوة أساسية لمعالجة وجود التنظيمات المسلحة.
ولدى مناقشة الشؤون الليبية في سياق العلاقات المصرية ـ التركية، فإنه من المهم أخذ عوامل الأزمة في الاعتبار. وبينما كانت مصر منشغلة بشؤونها الداخلية، على الجانب الأخر رفضت تركيا التدخل الدولي ودعت للنظر في تسوية مع القذافي، تدخل حلف شمال الأطلسي عسكرياً دون وجود أفق لديه للمرحلة التالية، من هذه الوجهة، واجهت تركيا ومصر عبء عدم الاستقرار وتعدد الأطراف المتدخلة في ليبيا. وتكمن معضلة ليبيا في التلاعب الغربي.
وعلى أية حال، يُعاني البلدان من كثافة التدخل الدولي في ليبيا وسوريا، لإعاقته الاستقرار وفرضه قيوداً على المنافع المُحتملة، وخصوصاً مع تدهور أداء مجلس الأمن بصورة ساعدت على إدامة الصراع وتنمية عدم الاستقرار. وبينما حاولت حملات لترويج قراءة بأن التدخل التركي في ليبيا تهديداً مباشراً لمصر، وأن مشكلات ليبيا هي نتيجة للثنائية المصرية والتركية، فيما كشفت السنوات السابقة ارتباطها بمساهمة التدخل الدولي في تكوين الأزمة وخصوصاً بعد المحاولات المستمرة من جانب أوروبا والولايات المتحدة لاحتكار الملف الليبي، فيما تتزايد الأعباء الأمنية على الدول الإقليمية.
لم يقتصر الحراك التركي أو المصري على المستوى الثنائي، بل شَمل تطوير مبدأ حسن النية، وذلك من خلال إبعاد القلق عن نطاق المجال الحيوي وفتح النقاش حول التعاون بشأنها. وهنا، يمكن الإشارة لزيارات الرئيس المصري، عبد الفتاح السياسي، لمنطقة وسط آسيا (أذربيجان وأرمينيا) في تزامن لافت، يعكس الرغبة في الحياد تجاه التعامل مع هذه المناطق. وفي ذات النطاق، مبادرات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لفتح الاتصال السياسي مع سوريا، وزيارة رئيس وزراء العراق إلى تركيا، تمثل توجهاً لترتيب التعاون الإقليمي.
يمكن القول، بأن التقدم الحالي نحو المصالح بين تركيا ومصر، سوف يعمل على تقريب منظور مشترك بينهما للأمن الإقليمي، يراعي المصالح الحيوية والاعتماد المتبادل، كما سيعمل على تنشيط العلاقات الجماعية في المنطقة، في ظل خصائص الدولتين وتكرار لقاءات وزيري خارجيتهما، التي صارت تُشكل مفتاحاً لرسم ملامح العلاقات الثنائية والجماعية بين البلدين، وبغض النظر عن ارتباط ترسيم الحدود البحرية بأطراف دولية أخرى بقدر ما هي مسألة ثنائية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!