د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
اعتمد الملك الزنكي العادل نور الدين محمود في دولته الحلولَ العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل ، والأحداث ، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب. ففي عام 552هـ شهدت الجهات الوسطى ، والشمالية من بلاد الشام زلازلاً عنيفةً ، تتابعت ضرباتها القاسية ، فخرَّبت الكثير من القرى والمدن ، وأهلكت حشداً لا يحصى من الناس ، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع ، فما كان من نور الدين إلاَّ أن شمَّر عن ساعد الجدِّ ، وبذل جهوداً عظيمةً في إعادة إعمار ما تهدم وتعزيز دفاعاته. فعادت البلاد كأحسن مما كانت ، ولولا أن الله منَّ على المسلمين بنور الدين ، فجمع العساكر ، وحفظ البلاد؛ لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار. (الباهر ص 110 ـ 112 نور الدين محمود ص 18)
وفي عام 565هـ ضُرِبَتْ بلدان المنطقة بغارة أخرى من الزلازل ، لم تقلَّ هولاً عن سابقتها ، خرَّبت الكثير من المدن ، وهدمت أسوارها وقلاعها ، وسقطت الدور على أهلها ، وهلك منهم ما يخرج عن الحدِّ ، والإحصاء ، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك ، لإعادة إعمار ما تهدَّم من أسوارها وقلعتها ، ولم يجأر إلى الله بالشكوى ويعلن أن الظلم قد فشا ، وإن هذا عقاب الله فقط ، أو إنه إشارات الساعة ، قد لاحت في الأفق القريب ، وعندما وصل بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد ، وهلاك كثير من أهليها ، فرتَّب في بعلبك من يحميها ويعمرها ، وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك ، ومنها إلى حماة ، فبعرين.
وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج ، لا سيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء ألبتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير ، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب ، فلما شاهد ما صنعته الزلازل بها ، وبأهلها؛ أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه ، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين ، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد ، وجوامعها ، وأخرج من المال ما لا يقدَّر قدره. (نور الدين محمود الرجل والتجربة)
إنَّ الكوارث ـ التي يبتلي الله بها عباده ـ تأتي بمثابة تحديات دائمة ، تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والإنجاز ، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات خطوات إلى الأمام. والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها ، ويصيبها بالعجز والشلل والجمود ، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول ، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة ، وواصل الطريق.
ثمة واقعة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال؛ كانت في الموصل خرابة واسعة في وسط البلد أشيع عنها: أنه ما شرع أحدٌ في عمارتها إلاَّ من ذهب عمره؛ ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة ، وشيوخها الورعين بابتياعها ، وبناء جامع كبير فيها ، تقام فيه الصلوات ، وتخطب الجمع ، وتدرس العلوم ، ففعل نور الدين ، وأنفق فيه أموالاً كثيرةً. (نور الدين محمود الرجل والتجربة، ص 19)
وعلَّق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب (نور الدين محمود الرجل والتجربة) على هذه الحادثة ، فقال: «لم يضرب نور الدين الخرافة ، والشائعة بالكلمة ، ولكنه ضربها بالفعل ، وبالإنجاز ، وزالت الخرافة» ، ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظلَّ حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين ، والدارسين. (كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود ص 19)
إنَّ شعور نور الدين الزنكي بالمسؤولية ، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين ، وخوفه من محاسبة الله له ، وشدَّة إيمانه بالله وباليوم الاخر؛ كانت أسباباً في التوازن المدهش والخلاب في شخصيته ، والذي جعل حضور الشخصية القيادية حاضرة في كل متطلبات الدّور الذي كان يقوم فيه.
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: " الدولة الزنكية " للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
· نور الدين محمود الزنكي، عماد الدين خليل.
· الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية، ابن الأثير.
· كتاب الروضتين، شهاب الدين أبو شامة.
· عماد الدين زنكي، علي محمد الصلابي.
· الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس