نديم شنر - الجزيرة نت
حزب الشعب الجمهوري أحد أقدم الأحزاب السياسية في تركيا والعالم، ولكنه مع استعدادات الاحتفال ببلوغه 100 عام من العمر في التاسع من سبتمبر/أيلول 2023 يواجه أكبر أزمة في تاريخه.
استمر هذا الحزب في حكم تركيا كحزب أوحد 27 عاما بعد تأسيس الجمهورية، ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى السلطة بعد ذلك أبدا منذ عام 1950 عندما خسر لصالح الحزب الديمقراطي، فأصبح منذ ذلك الحين حزب المعارضة الرئيسي، واستمرت الحال كما هي طيلة 73 عاما من عمره؛ يتغير قادة الحزب ولا تتغير النتيجة.
ولكن التراجع الذي يعيشه الحزب سجل رقما قياسيا مع قائده الحالي كمال كليجدار أوغلو الذي خسر السباق الانتخابي العاشر في 13 عاما أمام الرئيس رجب طيب أردوغان؛ فمع غياب المؤشرات عن نواياه للتخلي عن السلطة، يشهد الحزب فوضى كاملة وخلافا حول سياساته -التي كان يفترض أن تلتزم بمبادئ مؤسسه كمال أتاتورك- وهيكله التنظيمي، ووسائل إعلامه.
بعد الخسارة الأخيرة في الانتخابات الرئاسية في 28 مايو/أيار 2023، توالت المطالبات لكليجدار أوغلو بالاستقالة، وتضعنا هذه الحملة المطالبة باستقالته أمام مفارقتين غريبتين: الأولى أن الرجل كان مرشحا لما يسمى الطاولة السداسية التي تضم 6 أحزاب معارضة، ويفترض أن الفشل كان من نصيبها جميعا، ومع ذلك فإن المطالبات بالاستقالة موجهة إليه وحده، ولا يتحدث أحد عن قيادات الأحزاب الأخرى.
أما المفارقة الثانية فهي أن أولئك الذين كانوا جزءا من فريق عمل كليجدار أوغلو من داخل حزبه كانوا على رأس المطالبين له بالاستقالة، من دون أن يتحمل هؤلاء مسؤولية هذا الفشل.
"التغيير" على طريقة إمام أوغلو
أبرز هؤلاء المطالبين باستقالة كليجدار أوغلو هو رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو الذي كان سيشغل مقعد نائب الرئيس لو فاز كليجدار أوغلو في الانتخابات؛ ففي صبيحة يوم خسارة الانتخابات بادر بنشر فيديو يتحدث إلى أعضاء الحزب عن ضرورة "التغيير"، مدشنا بذلك انقلابا ضد من كان يعدّه بالأمس بمثابة أبيه.
الأسابيع التالية شهدت المزيد من الدراما؛ فإمام أوغلو في سعيه للاستيلاء على كرسي قيادة الحزب لم يتردد في التعاون مع أقرب رفاق كليجدار أوغلو من قادة الحزب وأعضاء البرلمان، وهم أولئك الذين كانوا شركاء في الإخفاقات على مدار 13 عاما.
وهكذا، بدلا من أن يسعى لتقديم برنامج للتغيير يجمع حوله جماهير أعضاء الحزب، اختار الطريق الأسهل للوصول إلى السلطة عبر البحث عن "خونة" من قلب النظام الذي يتصدر المشهد الحزبي، ويجري معهم اجتماعات سرية؛ أحدها الاجتماع الشهير على "زووم" الذي تم تسريبه.
مفهوم "التغيير" عند إمام أوغلو بهذه الصورة لا يتضمن مراجعة سياسات الحزب، وقضاياه المبدئية، والأخطاء التي وقع فيها، ولا الكوادر التي كانت سببا في الفشل، بل يقتصر على الإطاحة بكليجدار أوغلو ليحل محله، ولذلك فإن هذا الشعار الذي رفعه لم يؤخذ بالجدية الكافية من الناخبين أو من قيادات الحزب، وظلت الاستجابة له ضعيفة للغاية، ولهذا السبب لم يجرؤ إمام أوغلو حتى اللحظة أن يعلن بصوت عال أنه منافس لكليجدار أوغلو على رئاسة الحزب.
الدراسة التي استطلعت رأي قواعد الحزب، وشارك نتائجها أكرم إمام أوغلو الأسبوع الماضي، تكشف أيضا عن توقعات مختلفة عن المسار الذي سار فيه عبر محاولات التحالف مع قادة الحزب الحاليين؛ فأكثر من 100 ألف مشارك في هذا الاستطلاع رأوا أن الحزب يجب أن يشهد تغييرا جيليا في إدارته، وأن تصاحب ذلك رؤية جديدة يتم بلورتها وفقا لاحتياجات المجتمع والفهم الشامل للديمقراطية والعلمانية، وأن يتم تعزيز الروابط مع القاعدة الشعبية عبر تحسين الخدمات الموجهة لها وتحسين طرق التواصل، وإقامة بنية تحتضن التغيير والابتكار وتجذب اهتمام الشباب وتمكنهم، كل ذلك مع تبني سياسة مستقرة تلتزم بمبادئ أتاتورك.
اختباران مهمان
أمام الحزب حاليا اختباران مهمان: الأول هو المؤتمر العام الذي سيتم فيه انتخاب رئيسه وفريق إدارته، والثاني هو الانتخابات المحلية التي ستجرى في 31 مارس/آذار 2024. والمعضلة هي أن النجاح في الاختبار الثاني تعتمد جزئيا على النجاح في الاختبار الأول، ومع ذلك فإن النجاح في الأول لا يضمن النجاح في الثاني.
يؤيد كليجدار أوغلو دخول انتخابات المحليات مع شركائه في الطاولة السداسية، ولكن الحزب "الجيد" -الذي يعد أحد أركان هذه الطاولة- قرر خوض تلك الانتخابات وحده، وهو القرار نفسه الذي يتبناه حزب الشعوب الديمقراطي (الذراع السياسية لمنظمة حزب العمال الكردستاني "الإرهابية"، والحليف غير المعلن لكليجدار أوغلو)، وفي هذا فشل جديد لحزب الشعب الجمهوري.
والواقع أن جميع أحزاب المعارضة تتوقع أن تخسر الانتخابات المحلية في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، بل إنهم يخططون لتصفية بعضهم البعض في تلك الانتخابات.
النقطة الأخرى الجديرة بالانتباه أن حزبًا عمره يصل إلى 100 عام هو أكثر عمقا من الوقوع في ثنائية: إما كليجدار أوغلو أو إمام أوغلو؛ فهناك من يبحثون عن طريق ثالث، وقد كشف ذلك في حديثه للجزيرة نت السيد محمد سيفجين، البرلماني السابق عن الحزب خلال فترة قيادة دينيز باسكال له قبل أن يطيح به كليجدار أوغلو في مؤامرة نفذها بالتعاون مع تنظيم فتح الله غولن الإرهابية.
يرى سيفجين أن الحزب تحت كليجدار أوغلو دخل في انحراف أيديولوجي وفقد هويته وابتعد عن مبادئ مؤسسه مصطفى كمال أتاتورك، وقام بتصفية كوادره التقليديين لصالح من أهانوا مؤسس الحزب، واعتبر أن الناخبين الذين صوتوا للحزب بنسبة 25% في كل انتخابات أظهروا ولاء للحزب لم يظهره كليجدار أوغلو له وهو يدير ظهره لمبادئه.
وفي هذا الحوار كشف سيفجين عن أن الأعضاء التقليديين للحزب ونوابه القدامى يعارضون فرض الاسمين اللذين لا يختلف أحدهما عن الآخر حسب رأيهم، وأنهم يعملون من أجل طريق ثالث، وسيصدرون قريبا بيانا بهذا الخصوص، ويتوقعون أن تصل أسماء مغايرة تماما إلى قيادة الحزب في مؤتمره المقبل.
وحسب رؤيته، فإن كليجدار أوغلو وإمام أوغلو لا يجلبان للحزب إلا التشرذم والانقسام، فإذا وصل أحدهما لزعامته فستنفصل الأخرى عنه، وقد ظهرت بالفعل أنباء عن مشاريع تأسيس ذلك الكيان البديل، مما يعني أن أصوات الحزب قد تنخفض إلى ما دون عتبة 7%، وهذا ليس جيدا للحزب أو للديمقراطية في تركيا.
يظهر كل ما سبق أن حزب الشعب الجمهوري يواجه أزمة سياسية حقيقية، بين قيادة حالية حطمت الرقم القياسي في الهزائم الانتخابية، وسياسي طامح يسعى للوصول عبر التآمر ولا يجرؤ على إعلان ترشحه، وآخرين يبحثون عن طريق ثالث يعود بالحزب إلى مساره ومبادئه.
الانتخابات المحلية القادمة بعد 8 أشهر ستكون لحظة الحقيقة؛ فحتى لو أعيد انتخاب كمال كليجدار أوغلو في المؤتمر المقبل بسبب سيطرته على مفاصل الحزب، فإن النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات ستنقل النقاش داخل الحزب إلى مستويات جديدة، وبذلك فإن الجدل داخل الحزب بعيد كل البعد عن الانتهاء، والأزمة ستستغرق وقتا أطول.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس