ترك برس
بدأت للتو حقبة جديدة داخل أكبر أحزاب المعارضة التركية مع الإطاحة بزعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو وانتخاب أوزغور أوزال خلفاً له.
حقيقة أن هذا التحول لم يكن من المُمكن تصوره قبل الهزيمة المذلة للمعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، والتي يتحمل كليتشدار أوغلو جانباً كبيراً من المسؤولية عنها، تُشير إلى أن حزب الشعب الجمهوري يُظهر اليوم ممارسة سياسية أكثر قدرة على مواكبة الحاجة إلى التغيير على مستوى القيادة. لقد قضى كليتشدار أوغلو ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً في زعامة حزب الشعب الجمهوري ولم يتخلى عن الزعامة رغم أنّه لم يستطيع أن يقود المعارضة طيلة هذه الفترة إلى نصر انتخابي كبير يوصلها إلى السلطة ويُنهي حكم حزب العدالة والتنمية. حتى قبل الانتخابات الداخلية للحزب، لم يكن من المتصور أن كليتشدار أوغلو سيتخلى ببساطة عن الزعامة لدرجة أنّ تشبثه بمنصبه كاد يؤدي إلى إحداث انقسام داخلي كبير في الحزب.
مع ذلك، فإن التغيير في القيادة لن يكون كافياً وحده بأي حال لحزب الشعب الجمهوري لتحقيق نتائج مختلفة عن حقبة كليتشدار أوغلو من دون أن يُصاحب هذا التغيير تغييراً في النهج أيضاً. لا يُخفي أن شخصية كليتشدار أوغلو بحد ذاتها لم تُساعد حزب الشعب الجمهوري ولا أحزاب المعارضة عموماً في دفع غالبية الشعب التركي إلى منح أصواتهم للمعارضة والوثوق بها كطرف قادر على إدارة البلاد في مايو أيار الماضي. لكنّ جانباً كبيراً من شخصية كليتشدار أوغلو يعكس نهج حزب الشعب الجمهوري الذي لم يستطيع منذ عقود طويلة إظهار نفسه كقوة سياسية قادرة على إحداث تغيير سياسي في البلاد وتبني خطاب قادر على استقطاب فئات انتخابية جديدة من خارج القاعدة التقليدية للحزب. مع أن كليتشدار أوغلو سعى قبل الانتخابات الأخيرة في مايو إلى تبني "خطاب الحلال" لاستقطاب الأصوات المحافظة، وعمل على تشكيل تحالف عريض يضم غالبية أحزاب المعارضة، إلآّ أنّه فشل في إحداث تغيير سياسي لاعتبارات كثيرة ليس أقلها أهمية أن حزب الشعب الجمهوري بقي بالنسبة لشريحة كبيرة من الناخبين الأتراك غير جدير بالثقة وهذه حقيقة أظهرتها انتخابات مايو على وجه الخصوص.
إن مُجرد أن يتولى أوزغور أوزيل زعامة الحزب اليوم تُعد بمثابة مؤشر صحي على الممارسة السياسية داخل حزب الشعب الجمهوري وإن جاءت متأخرة للغاية لأن إحداث تغيير في القيادة كنتيجة لهزيمة انتخابية كبيرة، هو الخيار الصحيح. لكنّ التحديات التي تنتظر أوزيل كبيرة للغاية ومن غير المؤكد أنّه سيكون قادراً على التغلب عليها لتحقيق نتائج قوية في الانتخابات المحلية المقررة في مارس/آذار المقبل. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الإحباط الكبير الذي يسود أوساط ناخبي حزب الشعب الجمهوري وشارع المعارضة عموماً بسبب الأداء الانتخابي الأخير المُخيب لآمالهم، سيبقى طاغياً على الأرجح في نظرة هؤلاء الناخبين للحركة السياسية المعارضة عموماً، فضلاً عن أن الشرخ العميق الذي أحدثه قليجدار أوغلو في العلاقة بين حزب الشعب الجمهوري وباقي أحزاب المعارضة الأخرى على رأسها حزب "الجيد" سيحتاج فترة طويلة لإعادة ترميمه وربما لن تكون الفترة المتبقية للانتخابات المحلية كافية لتحقيق ذلك. مع ذلك، فإن الإطاحة بكليتشدار أوغلو خلقت آفاقاً جديدة أمام جبهة المعارضة للاستعداد بشكل أفضل لانتخابات مارس.
سيتعين على أوزيل توضيح موقفه من القضايا المهمة التي لم يستطيع كليتشدار أوغلو مقاربتها بشكل يحد من تأثيرها على حزب الشعب الجمهوري وعلى جبهة المعارضة عموماً. وعلى رأس هذه القضايا الموقف من الإرهاب. لقد أدى التحالف الذي دخله كليتشدار أوغلو مع حزب الشعوب الديمقراطية الكردي وتجنّبه إصدار موقف واضح من دعم منظمة "بي كا كا" الإرهابية له في الانتخابات، ومحاولة فرض هذا التحالف بالقوة على الشريك القوي في الطاولة السداسية الحزب الجيد القومي إلى ارتدادات قوية للغاية على حزب الشعب الجمهوري وعلى الطاولة السداسية عموماً. ويواجه أوزيل في هذه القضية مُعضلة الموازنة بين الحاجة إلى تبني خطاب قوي تجاه الإرهاب لتحسين العلاقة مع الحزب الجيد وبين الحاجة إلى عدم تنفير ناخبي حزب الشعب الديمقراطي خصوصاً في البلديات الكبرى ذات الأهمية البالغة في الانتخابات المحلية مثل إسطنبول على وجه الخصوص. لقد ساعدت أصوات ناخبي حزب الشعب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو على الفوز بالانتخابات المحلية في عام 2018 وهزيمة مرشح حزب العدالة والتنمية آنذاك بن علي يلدريم.
علاوة على ذلك، سيحتاج أوزيل إلى وضع مقاربة جديدة لإعادة إحياء التحالف السداسي للمعارضة لأن خوض الانتخابات المحلية المقبلة من دون هذا التحالف سيُعقد من فرص حزب الشعب الجمهوري وأحزاب المعارضة عموماً الحفاظ على سيطرة المعارضة على البلديات الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة. بعد انتخابات مايو، أصبح التحالف السداسي في حكم المنهار بسبب الخلاف الشخصي القوي بين كليتشدار أوغلو وزعيمة الحزب الجيد ميرال أكشنار. قد يُساعد التخلص من قليجدار أوغلو أكشنار وأوزيل في إعادة إحياء الشراكة القوية بين حزبيهما وإعادة تكرار تجربة التحالف السداسي في الانتخابات المحلية المقبلة، لكنّ نقطة الضعف الأساسية التي ستبقى تواجه أوزيل تتمثل في شكل المقاربة التي سيتبناها تجاه العلاقة مع حزب الشعوب الديمقراطية الكردي.
**مقال تحليلي للكاتب محمود علوش نشرته صحيفة ديلي صباح..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!