د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر
فيما مضى – أي قبل طوفان الأقصى – لم تكن الدعوة إلى الإسلام في الغرب شُغْلَ المسلمين الشَّاغل، ولم يكن يهتم بها إلا من يحملون همّ الدعوة على وَجْهٍ ما، وكانت تمضي على نحو عفويٍّ، كأنّها سفينة كبيرة لا رُبَّان لها ولا قبطان، قد أسلمت قيادَها للتيار المندفع بالقوة الذاتية التي يتمتع بها الإسلام، أمّا اليوم وغدًا – أي بعد طوفان الأقصى – فالأمر جِدُّ مختلف، كأنّ الحدث جاء على هذا النحو؛ ليعيد هيكلة الإنسان على هذا الكوكب، ويعيد رسم خريطة القناعات والمسَلَّمات لدى كثير من الخلق؛ ليتحقق نصرٌ ما كان أحد يتوقعه، ولتقبض الأمةُ الإسلاميةُ كلُّها ثمن دماء الأطهار الأبرار من أبنائها، في صورة فتحٍ جديد، فتحٍ ليس للبلاد وإنّما لقلوب العباد.
ما الذي جرى للناس؟ أيكون السبب هو ما أصاب الحضارة المعاصرة من إفلاس؟ أم إنّها الصحوة التي دبّت في عمق الضمير الإنسانيّ بعد طول مراقبة لأداء الغرب؟ أم إنّ التغذية المتدفقة من الحدث كانت هذه المرة متكاملة، فلم تقف عند حدّ التعاطف الإنسانيّ حتى جاوزته إلى الانبهار بمشاهد السمو الأخلاقي؟ أم إنّ الإنسان المعاصر مَلَّ الرتابة التي تحاصره بمسلمات تعسفية لا يطمئن بها القلب ولا يسكن لها الضمير فصار يطير وراء كل جديد يثير التفكير ويلهب الشعور؟ أعتقد أنّ هذه الأسباب اجتمعت في الواقع الغربيّ؛ لتنتج الظاهرة التي لفتت أنظارنا جميعًا، وبالتأكيد لفتت أنظار المراقبين الغربيين ومراكز أبحاثهم ودراساتهم الميدانية، وحتمًّا ستدفعهم إلى بث الهواجس لدى السياسيين ومَنْ وراءهم من القوى المهيمنة، هذه الظاهرة هي التفاعل العالميّ غير المسبوق مع القضية الفلسطينية، التفاعل الذي لم يقف عند حدّ التعاطف، وإنّما سرى بقوة إلى مساحة الانبهار؛ فغزةُ لم تعد مجرد رقعة على الخريطة تطل على استحياء، والملثم صار (أيقونة) الحرية في الشرق والغرب على حد سواء.
لكأنّ البشرية – وهي بعيدة عن منهج الله تعالى – تخط طريقها في الحياة بِرَدَّاتِ فعلٍ قاسية، وتكتب تاريخها كما يكتب “جهاز رسم القلب” على شريط الورق خطوطًا ارتدادية حادة، وأوروبا أصدق مثال على ذلك، فإنّها بسبب ما تعرضت له من عسف الكنيسة وبطشها وجهلها وغشمها؛ انطلقت بردة فعل عنيفة إلى اللادينية، وهرولت في هذا الطريق لا تلوي على شيء، حتى أسلمها إلى الاصطدام العنيف بجدار الفطرة الإنسانية، عندئذ كانت ردة الفعل الأخيرة هذه، التي حاول اليمين المحافظ ثم اليمين المتطرف أن يستوعبها، ولكنْ هيهات! إنّها ردة فعل ولدّها تمرد الفطرة الإنسانية؛ فمن الصعب أن يستوعبها ذلك الاتجاه الضيق، فهي الآن حائرة مترددة، تتلفت في شوق إلى من يخلصها من هذه الحيرة وهذا الإبلاس، لقد بدأت تتهيأ كما تتهيأ الأرض الجدبة لغيث السماء، وطفقت تُولي ظهرها للنظريات التي فُتِنتْ بها بالأمس، حتى أمست الداروينية في ذاكرة الكثيرين مؤسسة لغرس الخرافة وتكريسها لا تقل عن المجامع اللاهوتية في العصور الوسطى، وحتى غدا أمثالُ ريتشارد دوكينز (داعية الإلحاد المعاصر) عند الكثيرين مجرد دجالين أو ملاعبي قرود، وحتى أضحت الديمقراطية الغوغائية الحالية مجرد تخطيط “فنتازي” ترسم الرأسمالية جميع ملامحه؛ فالفرصة – إِذَنْ – مواتية.
ولدينا روافع ثلاثة، لا أراها إلا كافية ووافية، أول هذه الروافع: الفطرة، وقد نبه إليها القرآن، عندما وضعها في السياق بين وصفين للإسلام: (الدين الحنيف) و(الدين القيم)، فقال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم: 30)، ونبهت إليها السنة، في حديث: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة)، ثاني هذه الروافع: القوة الذاتية في هذا الدين، ولهذه القوة مصدران، الأول: بقاء القرآن الكريم محفوظًا كما أنزل، واستمراره في العطاء المستمر المستقر كأنّه نهر يجري بلا انقطاع، الثاني: بقاء الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان وموافقتها لفطرة الإنسان، ثالث هذه الروافع: إفلاس الحضارة المعاصرة ونضوب ينابيعها.
ألا إنّ الواجب كبير وخطير، إنّه ابتداء دعوة حقيقية إلى الإسلام، صحيح أنّ الدعوة في بلاد الغرب موجودة ومثمرة وخلاقة، وصحيح كذلك أنّ أعدادًا هائلة تدخل كل يوم في الإسلام، لكنْ في المقابل يوجد ما لا يصح لنا أن نتغافله، وهو أنّ الدعوة في الغرب جُلُّها موجه للمسلمين أصلًا، وهذا جيد ومطلوب ولكنّه ناقص، وازدياد الإسلام على حساب غيره سببه الأول ليس الدعوة وإنّما التباين الديموغرافي؛ فالمسلمون يتمتعون بكثرة الإنجاب وغيرهم يتباهى بقلة الإنجاب، وأغلب الذين يدخلون في الإسلام يدفعهم إلى ذلك تمرد على أوضاع حضارتهم، وليس ناتج عن دعوة حقيقية، يضاف لذلك أنّ الدعوة هناك أصابها ما أصاب الدعوة هنا من تنازع وشطط، فالأمر إذن يحتاج إلى وقفة عاجلة ودراسة سريعة وترتيب واعٍ، ولدينا العلماء والهيئات، فلدينا مثلًا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لا يزال يدور في مساحة لا تتسع لقلامة ظفره، كأنه فيل ضخم يسبح في فنجان، فهذه فرصته ليجد مجالًا يتسع للطاقات والقامات، ولدينا بَلَدان يستطيعان أنْ يلقيا بثقلهما في هذا المجال، وسيكون لهما بمثابة العمق الجيوثقافي، الأول: بلد عربيّ صغير جغرافيًّا كبيرٌ جيوسياسيًا، له ذراع إعلامية طويلة، وله أيادي سياسية واقتصادية – ورياضية كذلك – ميمونة، والثاني: بلد إسلاميّ يحاول أن يخرق سقف الهيمنة، يستمدّ من العمق التاريخي للخلافة العثمانية طاقة تَوَّاقة.
لن تبقى الأوضاع على ما هي عليه الآن؛ حتمًا سيضيق هامش الحرية التي كانت ممنوحة للجميع، وسيختل موقف الدول من المخالفين لها في المذهب، وقد بدت ملامح ذلك منذ صعود اليمين، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هذا تحدٍّ كبير يجب أن يواجه بالحكمة، وبالابتعاد عن الممارسات الرعناء التي صدرت بسبب ضعف الفقه، والتحدي الآخر هو اليمين المتطرف، وسيكون لدعوتنا الحجة العالية عليه، أمّا الإلحاد والشذوذ فموتهما قريب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس