
ترك برس
في كتابه "أيام في إسطنبول"، يقدم الكاتب التونسي حسونة المصباحي رحلة فكرية تعكس تأملات عميقة في الواقع الثقافي والسياسي المعاصر. بعيداً عن الطابع السياحي المعتاد، يسرد المصباحي تجربته في المدينة التركية الكبرى بأسلوب يرفض الانبهار السطحي، مركّزاً على تحليل العلاقات بين الشرق والغرب في ظل التحولات العالمية. الكتاب، الذي يعكس تساؤلاته حول الهوية والواقع العربي، يتجاوز حدود اليوميات التقليدية ليشكل شهادة أدبية على العصر.
لم يكن حسونة المصباحي، عندما لوّح بنفسه خارج حدود الوطن لأول مرة، يبحث عن عمل، فقد استقال من عمله كأستاذ للغة الفرنسية واتجه شرقا. كان يبحث عن معنى لحياته ككاتب شاب، وركض خلف أطياف المعرفة التي تطل عليه مرة من بغداد، ومرة من باريس، ومرة في برلين، ومرة في طنجة وفاس، ومرة من لوس أنجلوس، أو الأندلس، وسردينيا، وسراييفو.
لم يسمع أحد، ولا قرأ، أن حسونة المصباحي قد امتهن عملا غير الكتابة، ولا كتب بلغة من اللغات التي امتلكها إلا في مناسبات نادرة، وظل يكتب بالعربية الكتب الفكرية والروائية، ويترجم إليها ما يشده من نصوص فلاسفة العالم وأدبائه.
لم يستقر صاحب "هلوسات ترشيش" في جنس أدبي، وظل يمارس الصحافة الثقافية محاورا وكاتب مقال، يكتب الرواية والسيرة والأعمال الفكرية واليوميات، ويترجم، ليعود كل مرة إلى معشوقته الأولى: القصة القصيرة، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".
كان للترحال أثر كبير في كل كتاباته، بعضه خفي متسرب في أعماله التخييلية، وبعضه واضح وصريح، بداية بكتابه "كتاب التيه" إلى كتابه "أيام في إسطنبول" الفائز بجائزة ابن بطوطة لفن اليوميات لسنة 2024.
اليوميات والترحال
تمثل الرحلة الحديثة والمعاصرة إحدى أهم روافد الكتابة عن الذات، التي تواصلت امتدادا للكتابات الرّحلية، التي جاءت بدورها من الأدب الجغرافي ومن أدب البريد.
غير أن الرحلة الحديثة أخذت شكلين أساسيين، هما:
الرحلة التي يدون فيها الكاتب مغامراته، مقسّما إياها حسب المواضيع، وهي عادة تأخذ شكل الفصول المعنونة، كتلك التي قام بها الإسباني خوان غويتيسولو، والتي وضعها تحت عنوان "رحلات إلى الشرق"، حيث زار فيها غزة، والقاهرة، وكابادوكيا. وهي رحلات عادة ما يعتكف الكاتب على تحريرها بعد انقضاء الرحلة.
الرحلة التي يسجل أحداثها الكاتب يوما بيوم.
الصنف الأول، ألف فيه حسونة المصباحي كتابه "كتاب التيه"، وفي الثاني، الذي يأخذ لبوس اليوميات، كتب حسونة المصباحي "يوميات ميونيخ" و"عودة إلى ميونيخ" و"أيام في إسطنبول".
وعادة ما يعلن هذا النوع الثاني من الكتابة، منذ العنوان، عن المكان الذي جرت فيه أحداث الرحلة، ولعل أشهر مصنف فيه هو "يوميات لندن" لجيمس بوزويل، التي رافق فيها الناقد الإنجليزي الكبير صاموئيل جونسون (1862-1863)، ولم يعثر عليها إلا في العشرينيات من القرن العشرين.
كان بوزويل قد اعتمد هذه اليوميات في كتابة "سيرة صاموئيل جونسون"، التي تعتبر أحد النصوص المؤسسة لكتابة السيرة الغيرية في العالم.
وقد كتب الكاتب الفرنسي أندريه جيد، عددا من اليوميات أثناء سفره إلى أفريقيا جنوب الصحراء في "الرحلة إلى الكونغو" و"عودة من تشاد"، أو إلى شمال أفريقيا، وقد نقلها المغربي محمود عبد الغني مرة تحت عنوان "رحلة إلى الجزائر وتونس"، ومرة بعنوان "رحلة إلى شمال إفريقيا". وقد التزم فيها أندريه جيد، الكتابة يوما بيوم، وكذلك فعل الرسام الألماني بول كلي في يومياته الرّحلية إلى تونس وبلدان المتوسط.
وضمن هذا الحقل من الكتابة الرّحلية، يمكن أن ننزل كتاب حسونة المصباحي "أيام في إسطنبول"، الصادر عن منشورات المتوسط.
أيام في إسطنبول: كتاب ضد السياحة
يقتدي حسونة المصباحي في نحت عنوان يومياته الرّحلية بصياغة عرفت منذ كتاب زكي نجيب محمود "أيام في أمريكا".
والذي سجل فيه رحلته الأكاديمية (1953-1954) عندما وصل إلى الولايات المتحدة كأستاذ زائر بجامعتي كارولينا الجنوبية وجامعة واشنطن، ونقل لنا الكاتب أيامه في مدن أميركية منها: واشنطن، نيويورك، نيو أورلينز، لوس أنجلوس، سان فرانسيسكو، وسياتل.
بَيد أن الانبهار الذي ظهر في عمل زكي نجيب محمود لم يكن ليتسرب إلى عمل حسونة المصباحي، فهو يزور إسطنبول في القرن الحادي والعشرين، عندما صارت السماوات مفتوحة عبر التكنولوجيا.
وكما ورد في مقدمة السلسلة بقلم محمد أحمد السويدي، فإن التطور العلمي جعل دور الرحلة في اكتشافاتها الجغرافية قد انحسر، فلم تعد هناك منطقة مجهولة في العالم.
غير أن الرحلة المعاصرة اضطلعت بمهام أخرى، منها الذاتي والحميمي في تلويحته الفردية، ومحاولة رصد ذهنية الآخر ونظرته إلى العالم العربي والإسلامي في ظل "التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم"، والتي "تنعكس سلبا على علاقة العرب والمسلمين بالجغرافيات والثقافات الأخرى".
والأمر الثاني الذي يجعل من رحلة حسونة المصباحي مختلفة، هو أنه يزور إسطنبول للمرة الثالثة، وهذا ما يجعل دهشة الاكتشاف الأولى قد خفتت، وحل محلها التدبر والتأمل، واستحضار التاريخ وربط ذلك بالراهن العربي والدولي.
وهذا ما يجعل الطابع السياحي نفسه يتراجع عند الكاتب، وهو يتجول في ذات المعالم السياحية. هذا كتاب ضد السياحة. لقد جاء حسونة المصباحي إلى إسطنبول مدججا بالمعرفة، لذلك لم ينتظر نزول الطائرة في مطار إسطنبول ليبدأ الكتابة، بل كانت الكتابة قد انطلقت من قبل الرحلة وأثناء الرحلة.
اليوميات والصحافة
تتماس اليوميات في "أيام في إسطنبول" وبقية يوميات حسونة المصباحي مع المقال الفكري ومقال الرأي، وكأن الكاتب يتبنى رأي أرنستو ساباتو في كتابه "يوميات الشيخوخة" عندما صدّره بقوله "تبدو لي كتابة اليوميات كأنها نوع من الكتابة يتوسط طريقا بين التخييل والمقال".
وهذا الوعي الذي نرصده في مجمل أعمال حسونة المصباحي مرده ممارسة الكاتب لكتابة اليوميات واعتقاده دون تصريح أن الواقعة تتجاوز الحدث المتعارف عليه لتشمل الوقائع الذهنية، أي الأفكار والخواطر. ولعل هذا ما دفعه إلى نشر يومياته "العودة إلى ميونيخ" تحت علامة أجناسيّة دالة: "خواطر".
وهو بذلك لا يفعل ما فعله محمود عباس العقاد، الذي أعدم يومياته الخاصة ونشر مقالاته العامة التي سبق أن نشرها في الصحف تحت عنوان "يوميات"، بل يستدعي حسونة المصباحي بعض المقاطع من مقالاته بما يتناسب مع اللحظة الراهنة، التي هي لحظة اليومية، ليضمنها في نسيجها، فيكسب مقطع المقال حياة جديدة ومعاني جديدة وفقا للسياق الجديد الذي وضع فيه.
أليس هذا هو ما يحدث مع الرواية أيضا؟ ألم يقل أحد الشكلانيين الروس إن الرواية في إمكانها أن تتشكل من قصص قصيرة أو وحدات سردية سبق أن كانت لها حيوات خاصة لتشكل بذلك التنضيد الجديد نصا روائيا جديدا؟
يقول الشكلاني شلوفسكي متحدثا عن رواية "الحمار الذهبي" لأبوليوس: "من الممكن جمع قصص في رحم بناء أشد تعقيدا، مدخلين لها في إطار، أو رابطين إياها إلى جذع.. إننا نشعر في الغالب أن أجزاء الأعمال التي بنيت اعتمادا على التنضيد قد كان لها من قبل حيوات مستقلة".
ضمن هذا اللعب، تشكل جزء من يوميات حسونة المصباحي في إسطنبول مستعينا بخبرته ككاتب مقال في بناء الأفكار والتأملات وتثبيت المواقف الثقافية والسياسية وربطها بالراهن، ليكون الكتاب شهادة على العصر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!