ترك برس

قدم الكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، تحليلاً معمقاً للتطورات السياسية والدبلوماسية المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، مع التركيز على دور تركيا المتنامي كوسيط محتمل في مفاوضات السلام بين موسكو وكييف، وسط تراجع صبر إدارة ترامب وتصريحات حادة من ماركو روبيو.

ويرصد إيرسانال في تقرير نشرته صحيفة يني شفق تحركات إقليمية ودولية موازية قد تؤثر على مسار النزاع، من بينها انسحاب جزئي للقوات الأمريكية من أوروبا، واحتجاجات داخل أوكرانيا، والتوترات المرتبطة بممر زنغزور.

ويستعرض الكاتب كذلك التحولات داخل الإدارة الأمريكية واحتمالات الانتخابات المقبلة، في ظل مشهد دولي مضطرب ومفتوح على مفاجآت دبلوماسية. وفيما يلي نص التقرير:

أدلى ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي لدونالد ترامب، بتصريح نهاية الأسبوع قائلًا: "يشعر الرئيس بإحباط متزايد وينفد صبره إزاء روسيا والرئيس بوتين، بسبب المفاوضات المتعثرة باستمرار لإنهاء الحرب المستمرة في أوكرانيا. لقد حان وقت التحرك الآن".

وحتى قراءة سريعة لهذه التصريحات، تكشف عن إقرار ضمني بأن إدارة ترامب تتساهل مع موسكو. وهذا يعني أن أي "تحرك" ضد روسيا، إن حدث فسيكون على مضض. وهذا بحد ذاته أمر مهم، إلا أنه ليس هو النقطة التي ينبغي التوقف عندها.

فقد صرّح الرئيس رجب طيب أردوغان يوم الإثنين، قائلاً: "كما أقيمت طاولة المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول، ستُقام طاولة سلام في تركيا في المستقبل القريب. هذه الحرب الدموية ستنتهي".

إن هذا النوع من التصريحات الحاسمة من قبل الرئيس في قضايا شائكة كهذه، يدل على أن ما لديه من معطيات أكثر مما يظهر للعيان. لا سيما أنه حدد إطاراً زمنياً تقريبياً بقوله "في المستقبل القريب"، ما يستدعي الانتباه.

والأمر ذاته ينعكس في تصريحات وزير الخارجية هاكان فيدان، الذي استضاف الجولة الثالثة من المفاوضات الروسية الأوكرانية، حيث قال:

"هناك توافق مبدئي بين الطرفين على عقد قمة للزعماء في تركيا، باستضافة الرئيس أردوغان، وبحضور السيد ترامب والسيد زيلينسكي والسيد بوتين، إلا أن شروطهم للاجتماع من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار تختلف؛ فأحد الطرفين (أوكرانيا) يقول: ليجتمع القادة أولًا ويتباحثوا في الشروط ثم يُصدروا تعليماتهم لنا، في حين ترى روسيا أنه ينبغي حل بعض القضايا قبل اجتماع القادة، ليكون الاجتماع حاسمًا ونهائيًا. أرى أن هناك إرادة للوصول إلى نقطة التقاء. وأعتقد على الأقل أنه يمكن التوصل إلى حلٍّ مؤقت. وإذا واصلنا المسار، فسنصل إلى نتيجة".

نتيجة لذلك، تبدو احتمالية السلام التي يجدها معظم الناس بمن فيهم أنا صعبة في الوقت الحالي، أقرب من أي وقت مضى خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار مسار المفاوضات، والإيماءات وفرص إعلان وقف إطلاق النار. واللافت أن تعبير الرئيس أردوغان عن "السلام" يفوق تحفظات وزير الخارجية الذي اكتفى بالإشارة إلى "حل مؤقت على الأقل. لكن ماذا عن صبر الرئيس ترامب الذي نفد؟ هل هو تمهيد للانسحاب من جهود الوساطة، برسالة مفادها "لقد بذلت قصارى جهدي حتى الآن، وهذا كل ما لدي"، أم أن فيه نوعاً من الضغط على روسيا؟

ورغم ذلك، لا تزال التقلبات قائمة. فترامب كان قد منح الرئيس الروسي بوتين مهلةً مدتها خمسون يوماً، لنقل "لجعله يذعن"، لترد موسكو بلغة استنكارية: "ما الذي تقصده؟". ثم قام ترامب بتقليص المهلة إلى 12 يوماً فقط، من قلب العاصمة البريطانية، ليردّ عليه ديمتري ميدفيديف قائلاً: "نحن لسنا إيران ولا إسرائيل.. انتبهوا"

وفي خضم هذه المرحلة المتقلبة، نفذت وزارة الخارجية التركية سلسلة من التحركات السياسية المتدرجة والمعقدة. وقد تطلب ذلك جهداً بالغاً، لكنّ الأهم في كل ذلك أن طرفي النزاع لا يزالان يحتفظان بأوراقهما "طيّ الكتمان". فخلال جلسات التفاوض، لم تكشف موسكو وكييف عن نواياهما الحقيقية، بل فضّلتا الانتظار وترقّب اللحظة المناسبة. سواء نجح مسار السلام الذي تقوده أنقرة أو لم ينجح، فإن جوهر الإنجاز الذي حققه الوزير هاكان فيدان وفريقه هو في القدرة على "قراءة ما تخفيه تلك الأيدي". وقد تمكّن الفريق، من خلال جمع أجزاء متناثرة من المعلومات – وهي مصادر أشار إليها الوزير صراحة – من بناء تصور شامل تحت عنوان: "خطط كييف وموسكو"، وتم تقديمه مباشرة إلى الرئيس. ولا شك أن هذا النموذج من العمل الدقيق يُعدّ من صميم مهام السياسة الخارجية الناجحة والناضجة.

وهنا نضع النقطة… ونغلق القوس.

 

تطورات قد لا يلاحظها الكثيرون

عادةً ما تتسم فترات الصيف بشيء من التراخي في التغطيات، ولا سيّما وسط أحداث مأساوية كـ"حرائق الغابات" التي تمزق القلوب. وفي مثل هذه الظروف، لا تسلط الأضواء إلا على التطورات الكبرى والراهنة في السياسة الخارجية.

ولكن ثمة أحداث مهمة، ومُعرضة للتجاهل قد وقعت، بل إنّها تكشف عن ترابط فيما بينها. لذا دعونا نسلط الضوء عليها، ولو بشكل مختصر، كتمهيد لمتابعات مستقبلية:

في حال انسحاب القوات الأمريكية من أوروبا: أعلن ترامب عن قراره بخفض عدد القوات الأمريكية في أوروبا بمقدار الثلث، وأصدر تعليماته بتحريك نحو عشرين ألف جندي. ولهذا القرار تداعيات على الساحة الأوروبية، ويرسل رسائل بشأن الحرب في أوكرانيا، وهيكلية الأمن في الاتحاد الأوروبي.

علاقات بريطانيا بتنظيم "بي كي كي" الإرهابي: يُقال إن مستشار الأمن القومي البريطاني، جوناثان باول، يدير قنوات دبلوماسية خلفية مع التنظيم الإرهابي، وأنه كان العقل المدبر لهذه الاتصالات، وقام بجولات تهدف إلى إقناع التنظيم بالتخلي عن السلاح. هذا الأمر لا يدعو إلى الدهشة. غير أن الاهتمام المتزايد لبريطانيا بتشكيل مستقبل الشرق الأوسط الجديد، إلى جانب علاقاتها مع تركيا، يستدعيان اهتمامًا أكبر وتسليط الضوء عليهما كمحورين بالغَي الأهمية.

الاحتجاجات في كييف: لم يكن من الممكن قياس مدى الصعوبات التي خلّفها الضغط المتراكم خلال الحرب على حكومة زيلينسكي، بسبب غياب مؤشرات واضحة. غير أن قيام السلطات بإلغاء استقلالية هيئتين غربيتين وُضعتا لمراقبة الفساد في البلاد، جعل الصورة أكثر وضوحاً. وقد انعكس استياء الرأي العام الأوكراني من طبقة "أثرياء الحرب" في مظاهرات شعبية خرجت إلى الساحات. وعلى الرغم من تراجع الحكومة عن قرارها، فقد بات من الجلي أن الساحة السياسية الداخلية في أوكرانيا مهيأة لانفجار أزمات حقيقية.

إيران وممر زنغزور: الادعاء بأن طهران تماطل منذ البداية في مسألة ممر زنغزور ليس ادعاءً واهنًا، بل يعكس حقيقة ديناميات متعددة داخل النظام الإيراني. وقد أشار الرئيس الإيراني، بيزشكيان، في تصريح له، إلى أن العلاقات مع الدول الجارة والإقليمية تشهد تحسناً، مضيفًا: "لن تكون هناك حاجة للقلق من قضايا مثل ممر زنغزور، ويجب تهدئة الحساسية في إيران بهذا الخصوص". هذا التصريح، رغم قصره وكثرة ما أثاره من جدل، يشير إلى أن الممر الذي يعد نقطة اتصال عالمية بات يبدو قابلاً لأن يؤدي وظيفة عملية.

رئيس أمريكا المحتمل لعام 2028: ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، يُعد شخصية جديرة بالمتابعة الدقيقة. إذ يعطي انطباعًا بأنه قد يجنح عن خط ترامب إن لم يُحسن التعامل معه سياسياً. وعندما سئل عن التكهنات حول إمكانية ترشحه للرئاسة عام 2028، أشار إلى نائب الرئيس الحالي، جي دي فانس، معلنًا دعمه الواضح له. يُذكر أن فانس تلقى وعدًا ضمنيًا بالرئاسة إذا ما فاز ترامب بالولاية الثانية، ما يعني أن روبيو قد يكون الخليفة لفانس في منصبه الحالي. ويبدو أن كواليس السياسة الداخلية الأمريكية باتت تشكل عامل ضغط إضافي على سياسات ترامب التنفيذية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!