د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
تلغراف من السّفارة العثمانية في برلين إلى وزارة الخارجية في إسطنبول حول عدم ممانعة الدول الغربية من التدخل الفرنسي في تونس، 20 نيسان/ أبريل 1881م (الأرشيف العثماني، Y.EE 103/13)
تلقي وثائق الأرشيف التابع لرئاسة الوزراء التركية الأضواء بصورة مكثفة على طبيعة العلاقة التي كانت تربط تونس بمركز الحكم العُثماني في إسطنبول، وقد رأينا كثيرًا من الباحثين والمؤرخين يتحدّثون عن تونس خلال فترة الحكم التركي العثماني والتي تمتد من نهاية القرن السّادس عشر حتى نهاية القرن التّاسع عشر ودخول الاحتلال الفرنسي للبلاد على أنّها عبارة عن دولة مستقلّة بذاتها، وهذا توصيف ليس دقيقًا، فتونس في تلك الفترة كانت عبارة عن ولاية شأنها في ذلك شأن بقية الولايات العربيّة الأخرى والتي تحولت فيما بعد لتصبح دولا مستقلّة. كما تورد الوثائق معلومات مهمة جدا أغلبها بالتركية وبعضها بالعربية عن مواقف الحكومة العثمانية من الاحتلال الفرنسي لتونس.
طبيعة علاقة تونس بالباب العالي
لقد وجدنا العديد من المراسلات بين تونس والباب العالي، وكذلك العديد من التّقارير تبيّن طبيعة العلاقات السّياسية بين تونس باعتبارها ولاية أو إيالة عثمانيّة وبين مركز السّلطة في إسطنبول. (يمكن في هذا الموضوع خصوصا مراجعة التقرير رقم: DUIT 140/62) في هذه التّقارير تأكيد على أن تابعية تونس للسلطنة العثمانية كانت قائمة على مجموعة من العناصر وتتمثل في: أن يتولّى الوالي في تونس الحُكم بعد استلام خطاب الولاية على تونس بواسطة مبعوث خاص يُرسل من تُونس إلى الآستانة، والجدير بالذكر أن الحكم في تونس كان وراثيّا، وقراءة الخطبة باسم السّلطان العثماني والدّعاء له في المنابر، وضرب السّكة باسم السّلطان، وإرسال المساعدات الماليّة والعسكرية من عتاد ورجال في وقت الحروب، وإرسال ضريبة بشكل غير منتظم كانت تسمّى هديّة، وقد كانت هذه الضريبة تزيد أو تنقص حسب حالة البلاد الاقتصاديّة.
وبعد احتلال الجزائر من قبل فرنسا في عام 1830م وتزايد المخاطر بشان إمكانية تمدّد القوات الفرنسيّة إلى الجارة تونس، وبعد قيام التّمرّد في تونس عام 1864م بسبب ارتفاع الضّرائب وغلاء المعيشة وتدنّي مستوى حياة الشّعب التّونسي، عملت الحكومة العثمانية منذ عام 1871م على زيادة تقوية روابطها بالبلاد التّونسية، وحرصت أن ترى من والي تونس في تلك الفترة تعبيرًا جادّا وحقيقيّا عن ولائه الحقيقي للسّلطة العثمانيّة.
وعند قيام الحرب العثمانية الرّوسية في سنة 1877م طلبت الدّولة العثمانيّة من تونس أن تساهم في الحرب بالمال والعتاد والرّجال. ورغم الرسائل الكثيرة التي أرسلها والي تونس محمد الصادق باي من أجل إعفاء تونس من تحمل جزء من أعباء الحرب بسبب الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها البلاد إلا أنّ الوثائق التي حصلنا عليها تفيد بأنّ الدّولة أصرّت على طلبها بأن ترسل تونس ما يتعين عليها إرساله من المساعدة، خاصّة وأنّ المخاطر التي تُحدق بالدّولة كانت كبيرة وجدّية.
وقد أطلقت الدعوة للتبرع بالأموال من أجل توفير الإعانة الحربيّة للدّولة العثمانية، ورغم قلة ذات اليد فقد أمكن جمع مبلغ يزيد عن مليونين و500 ألف فرنك فرنسيّ، وكانت الجهود متصلة لإرسال بعض الرجال إلا أن الأخبار وصلت تفيد بأنّ الحرب توقّفت، فعُدل عن إرسال الجنود التّونسيين.
مؤتمر برلين عام 1878م وتداعياته على تونس
في سنة 1878م عقدت القُوى الأوروبية العظمى مؤتمر برلين من أجل التحكيم أو على الأقل الإدارة بدون اللجوء إلى الحرب لما كان يُعرف حينها بـ"المسألة الشرقية"، أو المشكلات الناجمة عن التداعي التدريجي لنفوذ تركيا العثمانيّة في أوروبا، والتّنافس بين القوى الأوروبية الأخرى على السّيطرة على الدّول الخارجة من تحت النِّير العثماني. كان الدافع إلى عقد المؤتمر هو الحرب الرّوسية التركيّة التي نشبت في الفترة بين عامي 1877-1878 ومعاهدة سان ستيفانو الناتجة عنها، والتي اعتبرتها القوى الأوروبيّة الأخرى وخاصة بريطانيا العظمى أنها تتحيز كثيرًا لروسيا، ولهذا فقد طالبت هذه القوى بتنقيح المعاهدة. وشارك في مؤتمر برلين النّمسا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا. تجسَّدت قرارات المؤتمر في معاهدة برلين الصّادرة في تموز/ يوليو 1878، وشملت الاعتراف ببلغاريا كإمارة مستقلة مع بقائها اسمياً تحت النفوذ العثماني؛ والاعتراف باستقلال جمهورية الجبل الأسود والزيادة في مساحة الأراضي التابعة لها؛ والاعتراف باستقلال صربيا ورومانيا؛ ونقل السّلطة على أراضٍ معينة في شرق تركيا إلى روسيا.
إن نتائج هذا المؤتمر بالنسبة إلى الدولة العثمانية كانت مؤشرا خطيرا على مستوى التراجع الذي بدأت تشهده الدولة سياسيا وعسكريا وجغرافيّا. وقد أثبتت الوثائق أن مؤتمر برلين تضمن بنودا سرّية تهدف إلى اقتسام أراضي الدولة العثمانيّة بين القوى الكبرى. وقد ثبت ذلك بسرعة بعد سنوات قليلة جدًا.
إن تخطيط فرنسا لاحتلال تونس كان قبل معاهدة برلمان، لكن تحركها ازداد قوة وزخما بعد أن اطلعت فرنسا على مواقف الدول العظمى، فقد صرّحت ألمانيا لفرنسا أنّها لا ترى أي مانع في أن تحتل تونس، والأمر نفسه بالنسبة إلى انكلترا وروسيا، بينما وجدت إيطاليا نفسها مضطرة للانصياع للأمر الواقع وقبول ما ستسفر عنه التطورات اللاحقة خاصة وأن الإشارات وصلتها بأن طرابلس الغرب يمكن أن تكون من نصيبها في وقت لاحق عندما يتهيأ الظرف المناسب لذلك. وبعد أن أدركت فرنسا أن الوضع الدولي يسير لصالحها سيرت جيوشها في شهر أفريل من سنة 1881م نحو البلاد التونسية تحت ذرائع وحجج واهية أهمّها محاربة عشائر خمير على الحُدود التونسية الجزائرية، وتبيّن بسرعة أن هدفها قصر باردو وليس كما زعمت القضاء على "الإرهاب" في الحُدود.
موقف الحكومة العثمانية من احتلال تونس
قبل دخول الجيوش الفرنسية إلى تونس وتوقيع والي تونس محمد الصادق باي على معاهدة باردو كانت الحكومة العثمانية تحث والي تُونس على تسوية المشاكل التي كانت قائمة بين القبائل التونسية والجزائرية على الحدود الشمالية والشّمالية الغربية للبلاد. وكانت المراسلات قائمة بين تونس والباب العالي في هذا الخصوص بشكل مكثف. ويبدو أن الحكومة في اسطنبول كانت تستبعد بشكل كبير أن تقدم فرنسا على احتلال تونس بسبب التصريحات المتواصلة الصادرة عن المسؤولين الفرنسيين سواء عن رئيس حكومتها أو وزير خارجيتها بأنّ فرنسا لا تنوي مطلقا احتلال تونس، وأن الأيّام سوف تثبت صدق ما يقولونه. وربما لهذا السبب لم تتخذ الحكومة العثمانية التدابير الضّرورية لمنع استيلاء الجيوش الفرنسية على البلاد التونسية. هذا بالإضافة طبعا إلى الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري الصعب والقاسي الذي كانت تعاني منه الدولة عموما خصوصا بعد هزيمتها الموجعة أمام روسيا وخسارتها لمساحات واسعة من الأراضي.
من جانب آخر كان موقف كل من والي تونس محمد الصادق باي ووزير حكومته مصطفى بن إسماعيل حاسما في تيسير دخول الفرنسيين إلى البلاد التّونسية. فمصطفى بن إسماعيل الذي عيّن وزيرًا أكبر خلفا لمحمد خزندار في 24 آب/ أغسطس 1878م منح الشركات الفرنسية امتيازات كبيرة من أجل الحصول مشاريع بالبلاد، ومنها شركة بون قالمة التي حصلت على مدّ خط سكة الحديد نحو الجزائر وكان من المناصرين للباي للتوقيع على معاهدة 12 أيار/ مايو 1881م التي جعلت الفرنسيين يرسخون أقدامهم فعليا في البلاد لمدة تزيد عن الـ70 عاما. والأرشيف العثماني يحتفظ لنا بالمراسلات التي كانت تدور بين والي تونس والباب العالي قبل التوقيع المعاهدة بقليل. وقد ورد في إحدى هذه المراسلات تحذير للوالي من مغبة توقيع أية اتفاقية أو معاهدة مع الفرنسيين دون علم الحكومة العثمانية أو رضاها.
بعد اجتياح القوات الفرنسية للبلاد وتوقيع المعاهدة أرسلت الحكومة العثمانية رسائل احتجاج إلى جميع الدّول الكبرى ترفض الخطوات التي أقدمت عليها فرنسا، وتؤكد أن تونس تدخل ضمن الأراضي التابعة لها وأن لديها فيها حقوقًا تاريخيّة تثبتها الشواهد، بيد أن مواقف هذه الدّول كانت باهتة تماما ولم تحرّك ساكنًا. ونظرا كما قلنا إلى موقف والي تونس ومصطفى بن إسماعيل المتواطئ مع المحتل الفرنسي محليا وتعقد الوضع الدولي، واستمرار مخاطر روسيا وتهديداتها فضلت الدولة العثمانية عدم الدخول في عداوة مع فرنسا والتعامل مع المسألة بطرق دبلوماسية، بينما عملت من جانب آخر على تقوية نفوذها العسكري في طرابلس الغرب مستفيدة مما حصل لها في تونس.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس