جلال سلمي - خاص ترك برس

أصبح وضع الوطن العربي يُعيد للأذهان الحروب الداخلية التي عاشتها الدول الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث أنه في تلك الحقبة وعقب ظهور الثورات المطالبة بالحرية والعدالة والمساوة، انتفضت بعض الدول "الملكية المُطلقة" لصد هذه الثورات، وهو ما أدى إلى تحول القارة الأوروبية إلى مسرح للحروب الداخلية بين الدول الثائرة والدول المضادة لها.

واليوم عند النظر نحو منطقة الشرق الأوسط وبالخصوص الوطن العربي، تخطر على البال عبارة "التاريخ يُعيد نفسه" ولكن هذه الكرة لم يعد التاريخ نفسه في أوروبا بل أعاد نفسه في منطقة الوطن العربي بانطلاق ثورات الربيع العربي في بدايات عام 2011.

لم تفلح ثورات الربيع العربي في الإفلات من تجربة الثورات المضادة التي عانت منها الشعوب الأوروبية الثائرة من قبل، بل وقعت فريسة لها وتم إجهاضها في أكثر من منطقة وإقليم حتى تحولت منطقة الوطن العربي إلى مرقد للفوضى العارمة التي تأبى إلى الآن الرحيل عنه وتركه ينعم بالأمن والاستقرار.

وفي إطار توصيف الخيارات الممكنة للوطن العربي للخروج من هذا المآزق، كشفت الخبيرة في شؤون منطقة الشرق الأوسط "إيبروا أيدين"، في مقالها "لماذا ظهرت أشواك الثورات المضادة بين ورود الربيع العربي"، نُشرت على الصفحة الإلكترونية لمركز أنقرة للدراسات الاستراتيجية، أن أول نقطة أغفل عنها ثوار منطقة الربيع العربي هي النقطة التي اتسم بها الثوار في تونس، حيث حرص الثوار في تونس، على الحفاظ على عدة مبادئ ديمقراطية أهمها التعددية السياسية واحترام الآخر وعدم الانفراد في السلطة، وخاصة رئيس حركة النهضة "راشد الغنوشي" الذي عُرف عنه تأثره بالنموذج التركي الشامل الحاضن لكافة الأطياف السياسية والذي سطر أقوى الأمثلة المثالية في تطبيق المبادئ المذكورة في تونس التي استُثنيت من الثورات المضادة، نتيجة لتطبيق مثل هذه المبادئ التي تشمل جميع الفرقاء السياسيين وتجعل فريق سياسي يتنازل عن السلطة بإرادته التامة لإشراك خصمه السياسي في العملية الإدارية للبلاد، على النقيض من مصر التي حاول فرقائها السياسيون تطبيق لعبة "1 زائد صفر"، بمعنى الانفراد في السلطة، لو حاول الإخوان المسلمون ترك الرئاسة أو البرلمان للجهات السياسية الأخرى لكان يمكن أن تكون مصر في حال مخالف لما هي فيه الآن.

وبالطبع في هذا المقام لا يمكن إغفال وطنية الجيش التونسي أيضًا، حيث لعب دور كبير في الحفاظ على الثورة، وهو ما يستدعي على الشعوب العربية الاستمرار في ثوراتها حتى تتمكن من تشكيل جيوش وطنية تُبدي ولاءها للوطن ومصلحته فقط كما عمل الثوار الفرنسيون سابقًا، وهذه المهمة تقع على عاتق الشعوب الثائرة التي تطالب بالحرية، فلا حرية دون تغيير جذري لكافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والشرطة، لا سيما أن تلك المؤسستين اللتين عادة ما يحتضنا الدولة العميقة.

المطالبة بالحرية ليست بالأمر الهين، حيث أن الشعب الفرنسي استمر في ثورته أكثر من ستين عامًا حتى استطاع تأسيس الديمقراطية وتحصيل الحقوق المنشودة، والشعوب الثائرة يجب أن تحمل نفس الإصرار الذي حمله الثوار الفرنسيون.

وفي مقالها "الربيع العربي إلى أين؟"، الذي نُشر على الصفحة الإلكترونية لمركز دراسات العلاقات الدولية، تشير الباحثة في مجال العلاقات الدولية "مروى جوليج" إلى أن النموذج التركي المُجسم بتجربة حزب العدالة والتنمية والمستمد لمبادئه "مثل مبدأ الوطنية، التحاور، الشمولية" من الثورة الفرنسية، يُشكل خيارًا مهمًا للشعوب العربية الثائرة، حيث أنه يشكل نموذجًا احتوائيًا شاملًا مركزيًا تحاوريًا مشتركًا، يضم بداخله كافة الأطياف السياسية بصرف النظر عن العرق أو الرؤية السياسية، حيث يحاول هذا النموذج تجميع كافة الرؤى السياسية في إطار واحد ذو أفكار مشتركة تسعى لتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشتركة بشكل توافقي معتمد على الحوار، ولا بد للثوار العرب الحقيقيين من اتباع هذا النموذج للوصول إلى بر الأمان في أوطانهم.

يبدو أن التجربة التركية أكثر التجارب الواقعية للوطن العربي، بحكم موقع تركيا الجغرافي وثقافتها السياسية. دور تركيا في طرح الخيارات للوطن العربي، يتجسد في طرحها للنموذج التحاوري الشمولي، تونس التحقت بركبه فكانت من الفالحين، ويبقى الخيار أمام الثورات الأخرى مفتوحا ً لإعادة التفكر والتدبر والاقتداء بهذا النموذج.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس