جلال سلمي - خاص ترك برس
نجح الأتراك في كسب حرب التحرير التي استمرت لمدة 4 أعوام "1919ـ1922" عسكريًا ودبلوماسيًا، وفي نهايات عام 1922 وبدايات عام 1923 عملوا على تأسيس دعائم دولتهم الجديدة "الجمهورية التركية"، مستندين في تأسيسها إلى الأسس الغربية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ـ 1923 ـ 1950:
اتسم الإطار السياسي الخارجي للجمهورية التركية، في بدايات سنوات تأسيسها، بالاتجاه نحو الغرب "الحضاري" والابتعاد عن الشرق "المتخلف"، حسب تصوير مؤسسي الجمهورية لذلك، وهذا ما أدى بطبيعة الحال إلى فتح تركيا أبوابها على مصرعيها أمام الساسة والمستثمرين الغرب ليمرحوا بها كما يشاؤون، وعلى الصعيد الآخر، أوصدت أبواب الجمهورية أمام المجتمعات الشرقية "المجتمع العربي بشكل خاص"، وعاشت تركيا مع هذه المجتمعات سنوات طويل من الجفاء.
على الصعيد الداخلي، صور الكثير من الخبراء السياسيين هذه المرحلة على أنها مرحلة "انفصام" في الشخصية التركية، حيث كانت تعيش الشخصية التركية عملية انسلاخ من جذورها الشرقية المحافظة للانتقال نحو الشخصية الأوروبية العصرية. نجح البعض الذي كان يدعم التغريب، في تخطي عملية الانفصام بسهولة ولكن البعض الآخر الذي اتسم بتمسكه الشديد بالشعائر والطقوس الدينية المحافظة، قاوم عملية الانفصام بشراسة وأكّد على اصراره لعدم الرضوخ لها، مما عرضه لظلم شديد، وعلى الرغم من معارضة طيف كبير من شرائح الشعب التركي لعملية الانفتاح الغربي، إلا أن السياسة العامة لتركيا في تلك الفترة التي كان حزب الشعب الجمهوري المُشكل والمسيطر الأساسي لها وعليها.
ـ 1950 ـ 1960:
شكلت هذه السنوات نقطة تحول مفصلية في التاريخ التركي، إذ خرجت تركيا عام 1950 من حكم الحزب الواحد إلى حكم التعددية السياسية، بعد أن أُرهقت طويلا ً من عباءة دكتاتورية الحزب الواحد التي جثمت عليها من عام 1923 وحتى عام 1950.
اعتلى الحزب الديمقراطي بتاريخ 14 أيار/ مايو 1950 سدة الحكم، بعد سنوات طويلة من سيطرة حزب الشعب الجمهوري المنفردة عليها. اتسمت السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي بالبراغماتية، حيث اتجه الحزب الديمقراطي، على النقيض من سياسة حزب الشعب الجمهوري، على تأسيس علاقاته مع الغرب والشرق بناء ً على ما تقتضيه المصالح القومية لتركيا.
الأسس البراغماتية لسياسة الحزب الديمقراطي دفعته إلى إرسال ثلة من جنوده إلى حرب كوريا عام 1950، لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بقدرة تركيا العسكرية على المساهمة في إرساء مصالح القطب الغربي، وبالفعل تمكنت تركيا عام 1952 من الدخول إلى حلف الشمال الأطلسي بصفة عضوة كاملة.
ودفعته هذه الأسس أيضا ً إلى تأسيس حلف بغداد عام 1955 بين تركيا والعراق وإيران وباكستان ومن ثم بريطانيا. عقب تأسيس تركيا لحلف بغداد، أبدت كل من سوريا ومصر اعتراضهما الشديد عليه، مبررين ذلك ببذل تركيا جهود حثيثة لإعادة سيطرة الدولة العثمانية على منطقة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من تدهور العلاقات المصرية السورية التركية، إلا أن الحزب الديمقراطي سعى لتوطيد العلاقات مع هذه الدول، ولإبداء نيته الحسنة على ذلك كان أول المعترفين بالجمهورية العربية المتحدة التي تأسست عام 1958 ،وكما أبدى نظرة إيجابية لاتحاد الأردن والعراق عام 1958 تحت سقف كونفدرالي.
أما على صعيد السياسة الداخلية، فقد أجرى الحزب الديمقراطي الكثير من الإصلاحات الدستورية والقانونية التي تصب في صالح الشعب التركي، حيث أعاد الآذان إلى اللغة العربية، وسمح للحجيج الأتراك بالذهاب إلى بلاد الحجاز، وسمح بتعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وغيرها الكثير من الإصلاحات التي أعادت روح الحرية إلى المجتمع التركي.
ـ 1960 ـ 1980:
اتسمت هذه الفترة بالفوضى السياسية العارمة على الصعيدين الداخلي والخارجي. انقلب الجيش في السابع والعشرين من مايو 1960 على حكومة الحزب الديمقراطي معدمين عددا ً من قادته، وأقر عام 1961 دستورًا جديدًا.
كفل الدستور الجديد الحق في تأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات دون قيود حازمة، فأصبحت حينذاك كثيفة/ الأمر الذي سيوقع تركيا في خضام فوضى عارمة بين اليساريين واليمينيين، فوضى استمرت حتى انقلاب الثاني عشر من سبتمبر 1980.
على الرغم من دخول تركيا للتعددية السياسية عام 1946، إلا أنه لم يظهر للسطح تعددية سياسية حقيقية، حيث كان حزبا الشعب الجمهوري والديمقراطي هما الحزبان السياسيان المسيطران على الساحة، ولم يظهر سوى حزب الشعب كحزب معارض، لكنه لم يظهر أي تأثير سياسي، ولكن عقب عام 1960 ظهر عددا ً من الأحزاب السياسية الجديدة مثل حزب تركيا الجديد "اليساري" وحزب العدالة "المركزي" وحزب الحركة القومية "اليميني" وحزب الوحدة التركي "يميني محافظ" وغيرهم، كثافة ظهور هذه الأحزاب بعيدا ً عن المحددات القانونية الضابطة، هو العامل الأساسي الذي تسبب في قيام حرب داخلية شرسة بين اليساريين واليمنيين.
ومن الجدير بالذكر أنه في هذه الفترة تولى حزب الطريق القويم بزعامة سليمان ديميرال مقاليد الحكم عام 1965 وتمكن من تسطير نجاح تنموي جيد على الصعيد الداخلي، ولكن ذلك لم يستمر طويلا ً لانقلاب الجيش على داميرال بإخطار تحريري عام 1971.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، انقلاب الجيش على حكومة الحزب الديمقراطي شكلت قاعدة أساسية استمرت حتى عام 1983، القاعدة هي أن الجيش متكفل بحماية أسس الاتجاه نحو الغرب وسينقلب على كل من يخرج عنها. هذه القاعدة دفعت الحكومات التركية المتعاقبة إلى الحياد عن الشرق والحرص على تأسيس علاقات جيدة مع الغرب، وعلى الرغم من عدم إبداء الغرب التقدير الكافي لتركيا، حيث رفضت الولايات المتحدة الأمريكية استخدام تركيا لأسلحتها لوقف جرائم اليونان في جزيرة قبرص وفرض الغرب والولايات المتحدة الأمريكية حصار خانق على تركيا التي قامت عام 1974 بتطبيق تدخل عسكري في جزيرة قبرص، حيث سيطرت تركيا على 35 % من مساحتها الكلية، وكان هذا التدخل هو التدخل العسكري الثاني الذي يقوم به الجيش التركي خارج حدوده، ولكن نتيجة هذا التدخل كانت مكلفة لتركيا، على العكس من التدخل العسكري في الحرب الكورية، الذي أدخل تركيا إلى حلف الناتو.
ـ 1980 ـ 1991:
الاحتدام الشديد الذي حدث بين اليساريين واليمنيين تسبب في إحداث فوضى عارمة داخل تركيا، وللقضاء على هذه الفوضى عمل الجيش في الثاني عشر من سبتمبر 1980 بإعلان انقلابه مطيحا ً بالحكومة ومعلقا ً للدستور.
أعلن زعيم الانقلاب العسكري آنذاك "كنعان إيفرين" أن الانقلاب العسكري أتى في سياق حرص الجيش على رأب الصدع السياسي والاجتماعي الذي أصاب تركيا في ظل عدم وجود ضوابط قانونية وتحركات حكومية أمنية صارمة.
بالفعل تمكن الجيش من القضاء على حالة النزاع الداخلية التي كانت سائدة في المجتمع، ولكن ارتكابه للكثير من الأخطاء بحق المواطنين أكسبه نقمتهم لا شكرهم على إنهائه لحالة الفوضى التي كان تؤرق حياتهم.
استمر الجيش بفرض سيطرته على مقاليد الحكم حتى عام 1983، وقبل أن يسلم الجيش الحكم لحكومة مدنية قام عام 1982 بإعلان دستور جديد للبلاد. حاز الدستور المذكور على نسبة قبول بلغت 91.37%.
وعلى الصعيد خارجي، حرص الجيش على كسب صداقة الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، والسير بناءً على تعليماته ليضمن استمرار تدفق الدعم المديد في ظل وجود حالة انهيار شبه تام للاقتصاد.
بعد إعلان الدستور بعام، أعلن إيفرين أن رجوع تركيا للعملية الديمقراطية سيتم في السادس من نوفمبر 1983، حيث سيتم عقد انتخابات برلمانية ينتج عنها حكومة مدنية. جرت الانتخابات وحصل حزب الوطن الأم على نسبة 45%، وحصل الحزب الشعبي على نسبة 30%، أما حزب الديمقراطية القومي التابع للجيش فقد حصل على 23%.
فاز حزب الوطن الأم بقيادة تورجوت أوزال في الانتخابات، وبذلك تكون "السنوات التورجوتية" أو "المنهج التورجوتي" الذي يشكل الدعائم الأساسية لحكومة حزب العدالة والتنمية الحالية قد بدأ.
على الصعيد الداخلي، انتهج تورجوت أوزال المنهج الديمقراطي الليبرالي المدني، حيث تمكن تدريجيا ً بنقل نظام الحكم إلى الجهاز المدنيين من خلال دعم تولي محافظين مدنيين لإدارة المحافظات، تبنى نظام السوق الحر ودعم الاستثمار الأجنبي في تركيا وأدخل تركيا إلى نظام الصرف المرن وبذلك أغدق تركيا بمؤشرات نمو وتنمية عالية، حيث أصبح نصيب الفرد من الدخل القومي 1636 بعدما كان 502 دولار.
أما على الصعيد الخارجي، اعتمد أوزل على تنويع العلاقات التركية مع دول القطبين الشرق والغربي، واتبع منهج السياسية البراغماتية الميكيافيلية، مقتديا ً بذلك بحكومة الحزب الديمقراطي، حيث توازى تطوير علاقاته مع الاتحاد الأوروبي الذي قدم إليه طلب انضمام كعضو كامل عام 1987 مبينا ً استعداد تركيا التام للامتثال لمكتسبات الاتحاد الأوروبي، بتطوير علاقاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتوافد الأفواج السياحية العربية بالآلاف بدأ في عهد تورجوت أوزال، كما أن انتقال مئات شركات الإعمار التركية للعمل في دول الخليج تم في عهد أوزال.
ـ 1990 ـ 2002:
يُطلق على هذه الفترة عهد الائتلافات الحكومية، حيث شهدت تأسيس أكبر عدد من الائتلافات الحكومية. ويمكن سرد تلك الائتلافات الحكومية على النحو الآتي:
ـ 1991 ـ 1995 ائتلاف الحزب الديمقراطي الاجتماعي الشعبي مع حزب الطريق القويم.
ـ 30نوفمبر 1995 ـ 6 مارس 1996 ائتلاف حزب الطريق القويم مع حزب الشعب الجمهوري.
ـ 6 مارس 1996 ـ 28 أبريل 1996 ائتلاف حزب الوطن الأم مع حزب اليسار الديمقراطي.
ـ 28 أبريل 1996ـ 30 يونيو 1997 ائتلاف حزب الرفاه مع حزب الطريق القويم.
ـ 1997 ـ 1999 ائتلاف حزب الوطن الأم مع حزب اليسار الديمقراطي.
ـ 28 مايو 1999ـ 2002 ائتلاف حزب اليسار الديمقراطي مع حزبي الحركة القومية والوطن الأم.
على الصعيد الداخلي، امتازت تركيا في تلك الفترة بالأزمات الاقتصادية الخانقة، أرجع العديد من الخبراء الاقتصاديين سببها إلى غوص الساسة في النزاعات السياسية وقصر عمر الحكومات التي توالت على سدة الحكم، الأمر الذي أعجز هذه الحكومات عن تسطير سياسة اقتصادية ناجحة.
أصابت تركيا في تلك الحقبة أزمتان اقتصاديتان شديدتان، أولها كان عام 1994 والثانية كانت عام 2001، حيث بلغت ديون تركيا المباشرة، بحلول عام 2001، 114 مليون دولار، أما الديون الناتجة عن عجز الميزان التجاري فقد بلغت 60 مليار دولار، وتراجع معدل النمو الاقتصاد إلى %3,4 دون الصفر، بعدما كان يبلغ 5% وأكثر.
أما على الصعيد السياسة لخارجية، فقد أظهرت تركيا تحرك خامل نوعا ً ما، رغم إظهارها تقدم ملحوظ في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، حيث وقعت اتفاقية الاتحاد الجمركي عام 1996، وحاولت اتحاف تلك الخطوة بتوقيع اتفاقية العضوية الكاملة إبان قمة هلسينكي عام 1997، ولكن التدهور الاقتصادي الشامل لمناحي شتى حال دون إحاطة خطواتها السياسية مع الاتحاد الأوروبي بتحركات اقتصادية واجتماعية داعمة لها.
ـ 2002 ـ إلى الآن:
حقبة التسعينات كانت قاسية جدا ً على تركيا شعبا ً ودولة ً، وكان لا بد من منقذ خارق لإخراج تركيا من أزماتها القاهرة.
انفصل عبد الله غل ورجب طيب أردوغان ولفيف من الشخصيات الإسلامية المحافظة التي كانت تنتمي لحزب السعادة، وأسسوا حزب العدالة والتنمية بتاريخ 14 أغسطس 2001، وتمكنوا من الحصول على نسبة ساحقة في أول انتخابات يخوضها عام 2002، حيث حصل حزبهم على نسبة 34%، وحصل منافسهم حزب الشعب الجمهوري على نسبة 10%، وأما الأحزاب الأخرى فلم يحالفها الحظ في الفوز، فتوزعت أصواتهم على الأحزاب الفائزة وأسس عبد الله غل الحكومة الاولى لحزب العدالة والتنمية.
شكل حزب العدالة والتنمية تجربة نموذجية يمكن أن يقتدي بها الكثير من دول الشرق الأوسط التي تعاني من وطأة القهر الاقتصادي والسيطرة العسكرية على نظام الحكم.
الخصائص العامة للسياسة التركية على الصعيد الداخلي في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، اتسمت بتقارب شديد مع سياسة أوزال، حيث اتبع سياسة الانفتاح الاقتصادي الغير محدود، وأقر عددا ً من القوانين التي تسهل عملية الاستثمار الأجنبي في تركيا، فأصبح هناك طلب طائل على الليرة التركية، وبالتالي ارتفعت قيمتها بعدما كانت في الحضيض، اتبع أسلوب تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية فوصلت الصادرات إلى 95 مليار بعدما كانت 36 مليار دولار، واتبع الأسلوب التدريجي لتحجيم سيطرة الجيش على الحكم، ومنح المواطنين الكثير من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحول التعليم الجامعي إلى تعليم مجاني بالكامل للطلاب الأتراك، وغيرها الكثير من الانجازات التي أوصلت تركيا إلى القمة، وجعلتها تحتل المرتبة الثانية والسبعين على خط التنمية العالمي، بعدما كانت في المرتبة المئة وخمسة في فترة التسعينات.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد نشطت تركيا في العديد من المنظمات العالمية والإقليمية، وحاولت تنقية أو تصفير مشاكلها مع دول الجوار، واتبعت السياسة البراغماتية في التعاطي مع الدول الأخرى، وعلى صعيد العلاقات السياسية الاقتصادية اتجهت تركيا نحو اتباع السياسية الليبرالية الاتحادية التي توثق العرى بين الدول وتجعلها مترابطة إلى حد كبير، اعتمدت بشكل كبير على السياسة الإنشائية التي تعتمد على روح الهوية، حيث أبرزت نفسها، خاصة على صعيد علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، على أنها دولة وريثة للدولة العثمانية.
ـ المراجع:
ـ أوزجور جيمان، السياسة التركية عبر التاريخ، موقع اقتصادي أورج للدراسات السياسية.
ـ صالح أق باي، العلاقات الاقتصادية بين تركيا والشرق الأوسط، مجلة الدراسات الأكاديمية، العدد الأول، 2013.
ـ خليل إبراهيم كالاش، تأثير الجيش على العلاقات الخارجية لتركيا، مركز الرؤية الاستراتيجية، 2015.
ـ عهد الائتلافات الحكومية، موقع سون دقيقة الإخباري التركي، 2016.
ـ أردال تاناس كاراغول، الديون الخارجية لتركيا عبر التاريخ، مركز الدراسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية "سيتا"، أغسطس 2010.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس