جدعون ليفي - صحيفة هآرتس - ترجمة خاصة ترك برس
أمس دفنا عمي. أحببته كثيرا، فقد كان بطل طفولتي. كنت متيما به لأنه كان مدرب المنتخب الإسرائيلي لكرة اليد، ولأنه حارب في حرب 1948. في طفولتي كنت أقف أمام المرآة متمنطقا بالحزام العسكري الذي احتفظ به عمي في خزانة الثياب منذ تلك الحرب. كان هذا الحزام خاصا بأفضل أصدقائه الذي قتل، والذي سميت على اسمه.
كان كثيرا ما يحكي لي عن تلك الحرب، مثلما فعل صديقه في الكتيبة 54 أوري أفنيري الذي كرس كثيرا من صفحات سيرته الذاتية "متفائل" لوصف الحرب. لقد عاشوا في تلك الحرب حتى بعد مضي عشرات السنين على انتهائها، فقد كانت التجربة التكوينية لحياتهم. كانت الحرب التي شهدت كل جرائم الحرب وعلى رأسها التطهير العرقي الممنهج، حيث تسببت في النكبة الفلسطينية. ورغم ذلك فعندما كنت أصغي لعمي، وعندما كنت أقرأ بنهم كتاب أفنيري، فإنني لم أثر وأغضب.
من المسلم بصحته الآن القول بأن شيئا لم يتغير، وأن كل شئ بدأ منذ تلك الحرب، وأن أساطير عمي وقصيدة الصداقة (التي تتحدث عمن ضحوا بأنفسهم في سبيل إقامة إسرائيل) قد استخفى وراءها أمثال الجندي إيلي أور أزريا الذي أعدم فلسطينيا جريحا في الخليل، وأنه لا فرق بين الكتيبة شمشون العاملة الآن في الخليل وبين وحدة شوعالي شمشون التي نفذت عملية قرية القسطل في حرب 1948، وأن الجندي إيلي أور فعل في الخليل ما فعله أفنيري نفسه وسجله في كتابه حقول فلسطين، وأن أفنيري وعمي قد فعلا في مدينة أسدود ما تفعله قوات حرس الحدود في نابلس، وأنه لا توجد حرب مقدسة ولا سلاح طاهر، فعلام الضجة إذن على إعدام الفلسطيني حيا في الخليل؟!
لم أكن موجودا في حرب 1948. ومع ذلك يبدو لي أن كثيرا من الأشياء قد تغيرت، وأن روح العصر قد تبدلت. يروي أفنيري في كتابه أنه اعتاد أن يجمع هويات السكان العرب الذين فروا من قراهم، ويحتفظ بها حتى اليوم. العرب بالنسبة له لهم أسماء، أما " المخرب " الذي أعدم في الخليل فليس له اسم ولا صورة.
هل عدم ذكر اسم الفلسطيني من الخليل يعني قناعا من الورع يغطي على تلك الجرائم؟ أشك في ذلك. أفنيري وعمي وأبناء جيلهم لم يحركهم الشر، ويبقى التساؤل هل كان محركهم كراهية العرب أو أنهم كانوا عنصريين. أما اليوم فقد صار اسم اللعبة هو الشر، الكراهية والشر والانتقام، وحتى السادية أحيانا. كان أفنيري وعمي وأبناء جيلهم في ذلك الوقت أبناء مهاجرين فروا بحياتهم من أوربا المشتعلة، وآمنوا أن حرب 1948 كانت حرب تحرير واستقلال الشعب.
لم ينظر معظمهم مطلقا إلى من كانوا يعيشون على هذه الأرض أو يفكروا في حقوقهم، ولكنهم اعتقدوا أن تلك الحرب هي حرب وجود بالنسبة لهم، كما قال أفنيري في كتابه "ما دام الأمر كذلك فلا أهمية للقانون".
يعرف معظم الإسرائيليون أنه لم تعد هناك اليوم حرب وجود. يعرفون أن دولتهم قد صارت اليوم قوة إقليمية كبرى، وإنما الحديث يدور عن استعمار، وتمييز عنصري، واحتلال غير شرعي في نظر كل دول العالم، واعتداء وقمع شعب يعيش منذ خمسين عاما تحت الحذاء الإسرائيلي لمجرد أن إسرائيل قوية، ولمجرد أنها قادرة. ما العلاقة إذن بحرب 1948.
ظل عمي يعيش طول حياته في حرب 1948، في مكان ما بمستوطنة بين شامين. كان يؤمن بسذاجة تمس الشغاف بأن الجيش الإسرائيلي طاهر، وأن قادته مقدسون مثل قائده المبجل شمعون آفي دان، وأن البلد التي حارب من أجلها وسقط رفاقه في سبيلها ينبغي أن تكون فوق كل شيء.
وعلى مدى سنوات كان يهددني بأنه سوف يلقيني من سيارته ما دمت تجرأت على إنكار ذلك. كان يعتقد أنه في دولة طبيعية، على حد وصفه، يجب أن يوضع أمثالي في السجن، وأشار في بعض الأحيان إلى الإعدام. وحتى ذلك كان فيه قدر من حسن النية.
ولم تبدأ أفكاره في التصدع إلا في أيامه الأخيرة. لم يكن الأمر سهلا. ومثل كثير من معاصريه بدأ في التساؤل هل هذه هي الدولة التي كان يحلم بها. وعلى مدى سنوات اعتقدت أن أفكاره ظلامية، أما الآن عندما مات فإنني أفتقد لسذاجتها، سذاجة لن نرى مثيلا لها في هذا المكان اللعين الذي حارب عمي الحبيب من أجل إقامته في حرب 1948.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس